يقول ابن عمرو {تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم} ومن هديه صلى الله عليه وسلم في السفر أنه كان يتخلف عن الناس، يأتي في آخرهم فيزجي الضعيف، ويدعو له، ويحمل ما ترك الناس من متاع على جمله ذلك.
كان عليه الصلاة والسلام أحن من الأب على أبنائه -كما أسلفت- أتى في آخر الجيش، والناس قد تقدموا عليه صلى الله عليه وسلم، فأدركهم، وهو يقول: أرهقتنا الصلاة أي: عاجلنا وقت الصلاة، فأخذ الصحابة يتوضئون وضوء المستعجل، والمستعجل إذا قام يتوضأ مثل الذي يستعجل في الصلاة يترك أشياء، حتى يدخل مع الإمام في الركعة الأولى ولكيلا يضيع الوقت في المسجد فيأتي يتوضأ فلا تنفتح له الجبة، فيحاول أن يرفعه هكذا وهكذا، فيغسل ما وصل إليه ثم يخرج ساعته ويضعها في جيبه وسواكه في الجيب الآخر وأقلامه في الجيب الثالث، فيدخل المسجد كالمجنون -نسأل الله العافية- هذا حال المتخلف يترك الحذاء بين الواحدة وبين الأخرى ثلاثة أمتار ويأتي سعياً فلا يدري يدخل في اليمين أو في اليسار أو يسحب واحداً أم لا، ثم يقف وإذا كبر أخذ يخرج الساعة وينظم هندامه، ولذلك يقال: إن الإرهاق في العبادة ليس بمطلوب.
قال ابن القيم في مدارج السالكين: من الأدب الاستعداد للعبادة.
إذا علمت أنه سوف يؤذن للظهر فلتتوضأ وتتجهز لصلاة الظهر وهكذا بقية الصلوات، فتعرف أنه فجر، أما أن يجلس الإنسان في بيته وعنده أضيافه وسماره، فإذا أتى وقت صلاة العشاء -مثلاً- يقول: سبحان الله! صلاة الآن، إذا أنت مسلم تصلي فنعم صلاة الآن، وأورد ابن الجوزي صاحب صفة الصفوة قال: بلغ من حرص السلف على التهيؤ للعبادة أن النجار منهم في العبادة مثل أعبد عبادنا الآن وأزهد زهادنا، كان النجار عنده مطرقة ينجر بها، فإذا سمع الله أكبر لم يستطع أن يردها بعد أن يرفعها، بل يسقطها وراء ظهره.
وتقول عائشة في صحيح مسلم لما سألها الأسود بن يزيد النخعي كيف يقوم صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصارخ؟ قالت: {كان يثب وثباً} قال: وعلمتم ماذا تريد من كلمة يثب وثباً، أي أنه: من حرصه صلى الله عليه وسلم على الصلاة يثب، وهي ليست بصلاة الفجر لكنها صلاة الليل وما قالت: يقوم قياماً، ولا يقف وقوفاً، ولكن يثب كالأسد وثباً صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله وصف المنافقين بقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142].
تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {كان صلى الله عليه وسلم معنا في مهنة أهله} يقطع معهم اللحم، ويخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته: {فإذا سمع الله أكبر قام من بيننا كأننا لا نعرفه ولا يعرفنا}.
أجل هذا هو الإسلام، بهذه الحرارة، وهذا التوقد، وهذه الحركة، وهذا التقدم إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] هل الإسلام حفظ محاضرات ومعلومات؟ أو أن يجعل الذهن سلة مهملات ثم إذا أتى داعي الله فإذا الإنسان كتلة هامدة ميتة لا حراك فيها، لا، ليس هذا المطلوب.
إذاً يؤخذ من هذا الحديث أنه لابد من الاستعداد للعبادة قبل دخولها، فهو من الأدب معه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أما الصحابة في هذا الحديث فإنهم يعذرون لأنهم في سفر رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال: {أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أرهقتنا الصلاة -أي أرهقنا وقتها، وضايقنا وقت الصلاة، حتى دخل علينا- ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا} والمسح هنا: هو الغسل، ليس المسح المعروف أن تمسح؛ لأنه ما ذكر الخف هنا، فالمسح معناه الغسل، وفهمه الشيعة أنه المسح وما أدراك ما فهم الشيعة!! هم أجهل خلق الله! لا يفهمون شيئاً حتى يقول ابن تيمية: هم أجهل الناس بالمنقولات، وأضل الناس بالمعقولات، ويقول الشعبي: قاتل الله الرافضة، لو كانوا من الحيوانات كانوا حمراً -كانوا حميراً- ولو كانوا من الطيور كانوا رخماً -يعني أنهم ليس عندهم عقول، نعم عندهم عقول ويأكلون ويشربون لكن النصوص فسروها ولووا أعناقها، وأبطلوها بسبب نحلتهم التي انتحلوها في الدين، فيقولون: معنى نمسح أي: نمسح بأيدينا، فهم الآن يمسحون، ويرون المسح لكن العجيب أنهم لا يرون المسح على الخفين، المسح على الخفين الذي ثبت بأحاديث لا يقبلونه والمسح على الأرجل مباشرة يقبلونه، انظروا إلى هذا الفقه الأعوج.
ولكن ما هو الرد عليهم؟ وهل هم صادقون؟
ظاهر الحديث أن المسح على الأرجل وارد، لكن يستدل بقوله أهل العلم: {فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار} فلو أنه كان مسحاً لظاهر القدمين لما قال صلى الله عليه وسلم: {ويل للأعقاب من النار} لأن العقب في آخر القدم، فأقبل صلى الله عليه وسلم يقول: ويل لأعقابكم إن لم تغسلوها بالماء، فتأكدوا من غسل أعقابكم، فلو كان يكتفى بالمسح، لسكت صلى الله عليه وسلم لأنهم مسحوا، لكن ليس هذا هو المسح، المسح كما يقول ابن حزم والشوكاني وغيرهما من أهل العلم، يطلق على الغسل، ويطلق على المسح المعروف، لكن كيف نعرف الغسل من المسح المعروف؟ نعرف ذلك بسياق الحديث وبالقرائن، فقال صلى الله عليه وسلم: {ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً}.
في هذه المسألة رفع الصوت بالعلم، وعقد له البخاري (باب: من رفع صوته بالعلم) ويقول جابر في صحيح مسلم: {كان صلى الله عليه وسلم إذا خطبنا رفع صوته واشتد غضبه، واحمرت عيناه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم} وذلك حتى تصل إلى القلوب، أما أن يميت الإنسان القضية كأنه يأتي بقضية جهادية ثم يتحدث بضعف فإنه يميت الخطبة ولو كان وراءها إخلاص، إذ لا بد للإخلاص من قوة في الأداء وقوة في التأثير، ولا بد له من وسائل فالإخلاص بلا وسائل ضعف، يقول بعضهم: يكفيني إخلاص! وليس عنده علم ولا تأثير، وهذا لا يكفي، ووسائل بلا إخلاص معناه الدمار والفشل نسأل الله العافية.
ولقد رأت عائشة شباباً يمشون متماوتين، فقالت: [[من هؤلاء؟ قالوا: عُبَّاد، قالت: كان عمر رضي الله عنه أنسك لله وأخشى لله منهم، وكان إذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا مشى أسرع]].
فالمطلوب أن يرفع الإنسان صوته على قدر الحاجة، إذا كان في غضب ووقت تأنيب في الفصل، أو في أهله، أو في مجتمعه ورأى ما يخل بالأدب، أو ما يخالف الشريعة فله أن يرفع صوته ليكون هذا لهم تأديباً، كأن يأتي الأستاذ فيرى الطلبة صلوا جميعاً الظهر إلا أحدهم لم يصل هل يقول: ما لك -بارك الله فيك وفتح الله عليك- لم تصل معنا؟!
هل يلقي عليه محاضرة؟! لا، هذا لا بد له من تعزير، برفع صوت وتشهير، حتى يعرف الناس أنه ارتكب جريمة، لأنه إذا هدأ المسألة وتركها فسوف يقول الطلبة: يمكن أن الشيخ وجد في بعض المسائل أنه يجوز ترك صلاة الظهر، فيترك بعضهم لهذا الأمر، فالمسألة بحسب المقام، يقول أهل العلم: رفع صلى الله عليه وسلم صوته هنا لاقتضاء المقام أن يرفع صوته لوجود المخالفة في مسائل التكليف.
والمسألة الثانية: التكرار، والتكرار يفهم به العلم لذلك يقول أهل الأندلس:
كرر العلم يا كريم المحيا وتدبره فالتدبر أحلى
وأنصح نفسي ومن يريد أن يذاكر مسألة أو باباً من أبواب العلم أن يكرره، ولا يمل منه، وليست المسألة كثرة كتب، بل يكفيك خمسة كتب، أو ستة كتب وتكررها حياتك، وتستقي منها علمك، أما أن يجمع الإنسان مكتبة كثيرة الكتب ويقول: سوف أمر بها وأفهمها، فمن أين سوف يفهم؟! قد يأخذ من كل بحر قطرة! لكنه لا يحوي عليها؛ فالتكرار أحسن طرق العلم.
يقول الذهبي في ترجمة أبي إسحاق الشيرازي -هذا العالم الكبير والزاهد لله عز وجل- في سير أعلام النبلاء لما ذكر سيرته قال: كان عنده ثوب واحد وعمامة ماملك بيتاً ولا ادخر مالاً، ولم يكن عنده من الدنيا شيء، فقال الذهبي: فهذا والله هو الزهد، نحل جسمه من كثرة العبادة، يقول: كنت أكرر الدرس قبل أن أشرحه لطلابي مائة مرة -يقول: هذا وهو عالم الدنيا- كنت لا أشرح الدرس لطلابي حتى أكرره مائة مرة، يعني يلخص الدرس ثم يكرره فيفهمه، ويقول الذهبي عنه كذلك: كنت أكرر كل قياس من أقيسة المنطق ألف مرة.
وفي سير أعلام النبلاء للذهبي في المجلد التاسع عشر في ترجمة القرطبي الجد، قال: كررت والحمد لله صحيح البخاري سبعمائة مرة، فالذي يرى أنه سوف يقرأ بلوغ المرام مرة أو مرتين وسوف يفهمه، لن يفهمه بهذا؛ لكن يفهمه بعد أن يقرأه عشر مرات أو خمس عشرة مرة، أو عشرين مرة ليفهم قضاياه؛ لأن هذا العلم عبادة، والتكرار عبادة، وإذا أجهدت نفسك في مرضاة الله فهي عبادة، هذه هي قضية التكرار وما أتى فيها، فكان صلى الله عليه وسلم إذا سلم سلم ثلاثاً بحسب المجلس، أو بحسب بركة ما يقوله صلى الله عليه وسلم أو لأمور أخرى.
يدخل المجلس ويقول: السلام عليكم ورحمة الله، فإذا مضى قليلاً، قال: السلام عليكم ورحمة الله، فإذا انتهى إلى المجلس قال: السلام عليكم ورحمة الله، وكان يكرر اسم الشخص إذا أراد أن ينبهه على أمر عقدي، أو أمر تكليفي ينبهه ثلاثاً يقول: يا معاذ! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله، فيسكت صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا معاذ! فيقول: لبيك وسعديك يا رسول الله، فيقول: يا معاذ! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله، فأصبح معاذ متهيئاً، وكل ذرة فيه جاهزة لما يلقى عليها، أما أن تأتي إلى الطالب أو إلى المتعلم وتقول: يا فلان وهو مستعجل وهو يشتري شيئاً أو يبيع أو يتكلم في شيء، فتقول: إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول كذا وكذا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، فإنه لن يفهم ما قلته فعليك بالتكرار لأنه مطلوب.
ومن القضايا التي يستفاد من الحديث -وقد سبقت معنا- شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته.
ونسأل الله تبارك وتعالى الذي بيده مفاتيح القلوب أن يفتح علينا وعليكم، وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا يجعل منا ولا فينا ولا بيننا شقياً ولا محروماً، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الصلاح في الباطن والظاهر.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.