وهنا سوف أذكر ذكاء أهل الإسلام، فمن أذكى الناس علي رضي الله عنه ولقد كانت جواباته من أذكى جوابات الناس، حتى جمع بعض أهل العلم فصولاً في جواباته، مثل ابن عبد البر جمع له جوابات: سأله سائل كم بين العرش والأرض يا أمير المؤمنين هل علي رضي الله عنه قاس المسافة؟ هل عرفها بالأميال والكيلو مترات؟ لا.
بل قال علي رضي الله عنه: [[دعوة مستجابة]] بين الأرض وبين العرش دعوة مستجابة.
ولذلك يقول ابن أبي الحديد -وابن أبي الحديد متهم، عنده ملعقتين من التشيع في التاريخ، ولذلك يتهم في ذاك الجانب -لكنه يقول: بهت علي الناس بذكائه وفطنته رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك أتى سبعة أناس شاركوا في قتل رجل عند علي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {أقضاكم علي} شارك السبعة في قتل رجل، فقال علي: عليَّ بالسبعة جميعاً، فأتوا فأدخلهم في صيوان عنده رضي الله عنه وأرضاه، فقال لجنوده: أمسكوا كل رجل عند سارية من السواري، فأخذوا كل رجل وجعلوه عند سارية، فأتى إلى الأول فقال: أنت قتلته؟، قال: لا والله ما قتلته، قال علي: الحمد لله الله أكبر، فتوهم الستة أن هذا اعترف، فقالوا: فضحنا، فأتي بالثاني، فقال: ماذا فعلت؟ قال: قتلته، أتوا بالثالث، قال: قتلته وشاركت في قتله، فاعترف الستة، فلما انتهى رضي الله عنه قال للأول وقد جحد: إما أن تعترف وإما والله لأقتلنك فإنهم قد شهدوا عليك، فاعترف.
يقول صلى الله عليه وسلم: {أقضاكم علي.
ومن الأذكياء عند الناس شريح ولذلك يقول الناس: ما سمعنا في قضاة المسلمين أذكى من شريح رضي الله عنه، فـ شريح القاضي من أذكياء الناس، دخل عليه رجل وامرأتان، فكانت المرأتان متحجبتين فتكلمت إحداهما، ثم تكلمت الثانية، ثم تكلم الرجل، فقال: قوما عني، فجمع مستشاريه والجلاس معه، قال: أما امرأة منهم فهي ثيب، وأما الثانية فإنها بكر، وأما هذا الرجل فإنه رضع من كلبة، وذكر ابن كثير أنهن ثلاث نسوة، وأما الثالثة فإن صوتها ضعيف وإنها حامل بولد، قالوا: كيف عرفت؟ قال: أما الثيب فهي جريئة تتكلم وتنظر في وجوه الرجال، وأما البكر فإنها خجولة تنكس رأسها، وأما هذه الحامل فإني أسمع زفيرها وعلمت أنها حامل بولد، وأما هذا الرجل: فإنه اضطرب وأصابته قشعريرة حتى انتفض شيء من وجهه فعلمت أنه رضع من لبن كلبة، فسألوهم فوجدوا هذه ثيباً، وهذه بكراً، وهذه حاملاً وأتت بولد، وقالوا للرجل: نسألك بالله هل رضعت من لبن كلبة؟ قال: ماتت أمي وأنا صغير ونحن في البادية وقد ماتت الأغنام من القحط ومن الجدب، فما وجدوا إلا كلبة تدر فأرضعوني منها مرة واحدة.
ومن القضايا التي تؤخذ من حديث النخلة: تقديم الأكابر أهل الصلاح، ولا يقتضي تقديم الأكابر أن تقدم الكبير ولو كان خواجة، لا، بل تقدمه إذا كان مسلماً يقوم بالفرائض ويؤدي ما افترض الله عز وجل، ويحترم حدوده، أما الفاسق فلا تقدمه ولو كان عمره ثلاثمائة سنة، بل تؤخره مثلما أخره الله.
ولا يقتضي التقديم دائماً أن نقدم الكبار دائماً، بل نقدم أهل الفضل من الكبار وغيرهم.
وعمر بن عبد العزيز اجتمع بالناس، وقام غلام من أهل الشام أو من أهل العراق فتكلم بين يديه، فقال عمر: اجلس ففي المسلمين من هو أولى في هذا الموقف منك، قال: يا أمير المؤمنين، لو كان الأمر بالسن لكان في المسلمين من هو أولى منك بالخلافة، فتبسم عمر رضي الله عنه وقال:
تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهل
فدعا له رضي الله عنه وأرضاه وقدمه من أجل ذلك.
ويقول ابن عباس في الصحيح: كان عمر يقدمني -كما في صحيح البخاري - مع أشياخ بدر يستشيرني معهم، فقال الصحابة الكبار: إن لنا أبناء مثل هذا فكيف يقدمه ويترك أبناءنا، فلما علم عمر أنهم وجدوا في أنفسهم دعاني ودعاهم، فعلمت أنه ما دعاني إلا ليريهم فضلي، فقال لهم بعد أن استمعوا: ماذا تقولون في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3] فسكتوا إلا بعضهم تكلم، قالوا: إن الله يأمر رسوله إذا فتح الله عليه ونصره أن يكثر من الاستغفار والتسبيح، قال: أعندكم جواب غير هذا؟
قالوا: لا، قال: وأنت يـ ابن عباس؟ قال: هذا أجل الرسول صلى الله عليه وسلم نعي إليه، أخبره الله بأجله، فتبسم عمر، وقال: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم منها أنت، فأقر له الصحابة بالعلم والفضل، وقدمه عمر بذلك رضي الله عنه، فتقديم الأكابر أمر مطلوب إذا كان فيهم صلاح، وما زال المسلمون في خير ما احترموا كبيرهم ورحموا صغيرهم.
القضية الخامسة: طرح الأسئلة على المتعلمين.
أخذت من هذا الحديث وقد أسلفت الكلام عنها، ولكن ليعلم أن من أحسن الأسئلة ما دار حول الدرس المشروح، أو ما دار حول القضية المطروحة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما طرح عنده الجمار، سأل الصحابة في ذلك وقد تعزب على المعلم أن يمهل الناس، أو يمهل الطلبة، له أن يعطيهم يوماً فيتفكرون ويتدبرون في ذلك.
وقالوا: إن الهيبة الشديدة ترهب الطلبة، أو تربك المتعلمين، فإذا كان العالم دائماً مهاباً لا يقتربون منه، حتى ورد في كتب الحديث وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء قال: كان من المعلمين محدث كبير وكان مهاباً، ولا يستطيع الناس أن يعطسوا في مجلسه، إذا أردت أن تعطس عنده فعليك أن تأخذ حذاءك وتخرج لتعطس خارج المسجد ثم تعود، قالوا: وإذا سمع قرقعة الأوراق غضب، وطرح الكتاب، وخرج ودخل بيته.
فأتى رجل فكظم أنفاسه أراد أن يعطس، فما استطاع أن يكتم أنفاسه فعطس، وقال: تكفي مرة ولكنها لم تكفه، عطس مرة ثانية، وأتبعها بثالثة، لما احمر وجه العالم وغضب، فالتفت هذا التلميذ وقال: أو نحن جلوس عند رب العالمين؟!
فيقول الذهبي: إن من الحكمة أن يتلطف المعلم مع تلاميذه حتى لا يجدوا حرجاً في سؤاله وفي استشارته وفي عرض مشاكلهم عليه، لأنه إذا كان مهاباً جداً خافوا منه، حتى إذا ذهب الإنسان منهم يريد أن يسأله صلى ركعتين، وقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، وقرأ المعوذتين ثم سأله، وربما يجيبه أو لا يجيبه، وأكثر الأحيان بعض الناس يجعل الله فيهم جبلات وفطر، بعضهم لا يتحمل السؤال أبداً.
ولذلك يقولون: الأعمش كان لا يُسأل رحمه الله هو جائع حتى يتغدى، ولا يسأل وهو غاضب حتى يرضى، ولا يسأل وهو واقف حتى يجلس، حتى سأله رجل في الطريق من الحاكة الذين يحيكون الثياب، سأله رجل منهم، فقال: يا أبا محمد! هل تجوز الصلاة وراء الحائك؟ وهذا سؤال مستفهم مسكين يظن أنه عندما يكون في هذه الصنعة لا يجوز إمامته.
قال: نعم تجوز بلا وضوء.
قال: وهل تجوز شهادتنا؟
قال: نعم، تجوز مع شاهدي عدل.
القضية السادسة التي في الحديث:
أن على الداعية أن يضرب الأمثال للناس، فإن الله عز وجل ضرب القصص والأمثال للناس وطرحها ليتفكروا ويتدبروا: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم:24] (مثلاً ما بعوضة) وضرب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالذباب مثلاً، وضرب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالعنكبوت وبالبعوضة مثلاً، فللمسلم أو الداعية أو العالم أن يضرب الأمثال للناس حتى يستفيدوا من ذلك.