أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه يقول الذهبي في ترجمة أبي عبيدة في سير أعلام النبلاء المجلد الأول: "فأما أبو عبيدة فرزقه الله حسن الخلق"
يقول عمر رضي الله عنه للصحابة بعد أن جمع الصحابة فقال: اجلسوا فجلسوا، قال: تمنوا فسكتوا، قال: أقول تمنوا -يعني كل إنسان يتمنى- فقال ذاك: أتمنى أن الله يرضى عني ويدخلني الجنة، وقال ذاك: وأنا أتمنى الشهادة في سبيل الله، وقال ذاك: وأنا أتمنى أن أحفظ القرآن، قال عمر: لكني أتمنى على الله أن يكون عندي ملء هذا البيت رجالاً من أمثال أبي عبيدة عامر بن الجراح، أبو عبيدة هذا رزقه الله من الزهد ومن العبادة والتجرد إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى درجة منقطعة النظير، ولذلك يقول بعض أهل السير: "نرى أنه ما حمل في قلبه حقداً ولا حسدا"
من لياليه المشرقة التي يحفظه الله بها وسوف يجازيه بها، أنه كان أمير الأمراء في اليرموك، لكن في أثناء المعركة توفي أبو بكر فتولى عمر فأول إجراء اتخذه عمر أن عزل خالداً والمعركة حامية في اليوم الثاني وأتت الرسالة إلى أبي عبيدة فلما قرأ الرسالة: [[بسم الله من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح أمَّا بَعْد: فقد وليتك جيش المسلمين وعزلت خالداً]]
فدمعت عينا أبي عبيدة ووضع الرسالة؛ لأنهم يريدون الله والدار الآخرة، لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، ولو كان غيره لأتى بـ خالد وجرجره وحاسبه وجلده، وقال: قد عزلك أمير المؤمنين؛ لأنك فعلت وفعلت، لكنه أخفى الرسالة وما تصرف في الأمر حتى انتهت المعركة، ثم جاء إلى خالد وقال: [[يا خالد! إنما هي أيام قليلة نعيشها في هذه الحياة، وقد رأى أمير المؤمنين أن يوليني وقد تركتك من تلك الأيام]] فقام خالد فقبل على رأس أبي عبيدة وقال: [[رحمك الله أفلا أخبرتني، قال: لا.
إنما نحن إخوة وكل منا يفعل ما يراه]] يعني ما يراه في ذات الله عز وجل يقولون: إنه من لياليه في آخر معارك اليرموك نام أهل المعسكر ما يقارب أربعين ألفاً من الناس -من الجنود من جنود المسلمين- ناموا بعد النهار الطويل والقتال المرير، ناموا بعد ذاك الإعياء والتعب الشديد ناموا جميعاً وقام هو فرآهم فأيقظ امرأته وقال: [[أتريدين ليلة من ليالي الجنة؟
قال: توضئي، فتوضأت، قالت: أنصلي؟
قال: لا، قالت: نقرأ القرآن؟
قال: لا، قالت: ماذا نفعل؟
قال: نطوف بهذا المعسكر فنحرسه علَّ الله عز وجل أن يحرم عينينا عن النار، فقامت رضي الله عنها فركبت وراءه على الفرس]].
كان يستطيع بنفسه أن يطوف ويتفقد، هو أمير الأمراء ويستطيع أن يوقظ أحد الجنود من الناس الألوف المؤلفة، ويستطيع أن يترك زوجته، ولكن أحب لها من الخير كما أحبه لنفسه، فقام يستعرض المعسكرات كلما مر بمعسكر سلم عليهم، وفي تلك الليلة أصاب الناس مطر في ذاك المخيم، قال أحد المسلمين: والله لقد رأيت أبا عبيدة أخذ قطعة من قماش وإنه يظلل بعض الناس من الأطفال والنساء هكذا بالخيمة أو القماش يظللهم عن المطر، فهل بعد هذا الوفاء وفاء؟!
الشاهد أن أبا عبيدة رضي الله عنه يقول -وهذا في كتاب الزهد للإمام أحمد -: [[والله ما رأيت متقياً لله عز وجل حراً أو عبداً إلا وددت أني في مسلاخه]] يقول: وددت أنني أنا الذي في جلده.
ومرة من المرات سافر أبو عبيدة من دمشق إلى المدينة ومعه ناس، فلما أصبحوا في الطريق [[قال أبو عبيدة: تمنوا، قال أحد الناس: أتمنى أن يدخلني الله الجنة، فلما انتهوا كلهم من أمنياتهم بكى، وقال: والله يا ليتني كنت كبشاً يذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحتسون مرقتي وأني ما عرفت الحياة]].
هذا أبو عبيدة لكثرة إخلاصه وزهده، ولذلك لما سافر عمر إلى الشام وأراد فتح بيت المقدس، دخل فاستقبله الأمراء إلا أبا عبيدة كان غائباً عن الناس، فقال عمر: أين أخي وحبيبي؟ قالوا: من؟
قال: أبو عبيدة، قالوا: يأتيك الآن، فأتى على ناقة سوداء خطامها الليف ما عليها حلس، -يعني ما عليها بردعة ولا قتب- فلما رأى عمر، تعانقا وبكيا طويلاً، وقال عمر لـ أبي عبيدة: تعال نبكي على ما فعلنا بأنفسنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فانصرفا عن الطريق -يعني مالا عن طريق الناس والجيوش والأمراء- ينتظرون شرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية وغيرهم من الأمراء كلهم وقوف صفوف ينتظرون قدوم عمر، قال: يا أبا عبيدة تعال نبكي على ما فعلنا بأنفسنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فانحرفا عن الطريق يبكيان ثم قال عمر: أريد أن أبيت عندك الليلة يا أبا عبيدة! وعمر ذكي لماح، ومن ذكائه كان يباغت عماله وأمراءه، كان يتركهم حتى يناموا في الليل ثم يدخل عليهم فيطرق فينام معهم فيرى فرشهم ويرى ماذا أخذوا؟ وماذا تركوا، ويرى أموالهم؛ لأنه يقول ومن مبادئه أن الأمير إذا ابتنى بيتاً قال: أبت الدراهم إلا أن تخرج رءوسها، يعني يحاسبهم هكذا.
فقال لـ أبي عبيدة: أريد أن أنام عندك هذه الليلة، قال أبو عبيدة: تريد أن تعصر عينيك عندي، يعني تبكي عندي؟
قال: لا، فقال أبو عبيدة: حي هلاً وسهلاً، فلما انصرف الناس نام عنده عمر في تلك الليلة فقدم له خبزاً من شعير، قال: يا أبا عبيدة أما كان لك أن تتوسع؟
قال: ما كان لي من شيء، كل ما تعطيني من عطايةٍ صرفتها في سبيل الله.
قال: فلما أتى ينام عمر أعطاه شملة فافترش نصفها والتحف النصف الآخر فلما أصبح عمر نائما أخذ يبكي عمر، فقال أبو عبيدة: أما قلت لك في أول النهار أنك سوف تعصر عينيك عندي -يعني سوف تبكي عندي- يبكي عمر من حالة أبي عبيدة، ولذلك يقول عمر: ليت عندي بيتاً مملوء برجال مثل أبي عبيدة.
الشاهد أنه يقول: [[ما رأيت رجلاً متقياً لله عز وجل حراً أو عبداً؛ إلا وددت أني في مسلاخه]] هذا الحب في الله عز وجل والبغض فيه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
والإمام الشافعي يتواضع أشد التواضع وقد كررنا هذه الأبيات لا لحلاوتها ولطلاوتها فقط ولكن لما فيها من خير يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة
فيقول له الإمام أحمد:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم قد تناولنا الشفاعة
أو كما قال؛ لأن الشافعي من أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: منكم قد أخذنا الشفاعة وأنت من الصالحين.