وأما قوله عليه الصلاة والسلام: {ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه} فهذه أعظم درجات المحبة، وهؤلاء من الأصناف الثلاثة الذين قال عنهم صلى الله عليه وسلم: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان -ثم ذكر منها-: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله} فإذا أحببت رجلاً لله، لا لتجارة ولا لمنفعة ولا لمكسب، فأبشر ثم أبشر، فأنت من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومعنى (اجتمعا عليه) أي: دخلا في محبته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فكان اجتماعهم بسبب المحبة فيه، (وتفرقا عليه) أي: سافر أحدهم وفارق صاحبه، أو مات أحدهم عن الآخر وهو حبيب له في الله.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين الرجلين من الصحابة ويجعلهم إخواناً، فآخى بين سلمان وأبي الدرداء، وتآخى كذلك في الله سلمان وعبد الله بن سلام، فقال عبد الله بن سلام لـ سلمان: إني أحبك في الله، فأسألك بالله عز وجل إذا مت قبلي أو مت قبلك أن تحرص إذا تلاقينا في المنام أن توصيني بخير يدلني على الله.
وهذه القصة في صفة الصفوة وغيرها، وأرواح المؤمنين تتزاور في المنام، وهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة وليست من الأصول، لكن ذكرها ابن تيمية، فإن الأرواح تتزاور، ولذلك قد يرى المسلم أخاه المسلم في النوم وقد مات ويخبره بكلام، ويتحدث إليه بأمور، ويوصيه بوصايا.
فمات عبد الله بن سلام قبل سلمان الفارسي، فرآه في المنام، فقال: كيف أنت؟ قال: أنا في عيشة راضية، وأنا أرى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى كل جمعة، يوم المزيد.
قال: فما وجدت خير العمل؟
قال: ما وجدت خير عمل من التوكل على الله، فأوصيك بالتوكل على الله.
فكانت هذه وصيته له، فهم تحابوا في الدنيا فكانوا إخوة في الآخرة وفي حياة البرزخ.
ولذلك قال أبو الحسن أمير المؤمنين رضي الله عنه: تزودوا من الإخوان فإنهم ذخر في الدنيا وفي الآخرة.
قالوا: يا أبا الحسن، أما في الدنيا فصدقت، وأما في الآخرة فمتى؟! قال: أما سمعتم الله يقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فمن خالل أخاه في ذات الله عز وجل كان خليلاً له في الآخرة، وكان مشفعاً مقبولاً فيه، إذا رضي الله وأذن له وكان من أهل الشفاعة.
فالمتحابون يناديهم الله عز وجل: {أين المتحابون في جلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي فيقوم نُزَّاع القبائل فيجتمعون حتى يظلهم الله في ظله قيل: من هم نُزَّاع القبائل؟ قال: قوم لم يجتمعوا على حسب، ولا على سبب، ولا على نسب، وإنما جمعهم الحب في الله} هذا من شعب، وذاك من شعب، وهذا من قبيلة وذاك من قبيلة، جمعهم الحب في الله، فيناديهم الله عز وجل، فيقومون يتخطون الناس حتى يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله.
وفي الحديث الصحيح: {أن رجلاً خرج من قرية إلى قرية ليزور أخاً له في الله، فأرصد الله على مدرجته ملكاً من الملائكة، فلما مر الرجل قال له الملك: أين تريد؟ قال له: أريد أن أزور أخاً لي في الله.
قال: هل له من نعمة عليك يربها؟ -أي يتعاهدها، فأنت تريد مكافأته، وفي لفظ: هل لك عليه من نعمة تربها؟ أي هل هناك سبب دنيوي أو مصلحة؟ - قال: لا.
والله الذي لا إله إلا هو، وإنما أحبه في الله.
قال: أنا رسول الله -يعني ملك أرسله الله- أخبرك أن الله رضي عنك ورضي عن صاحبك وفي لفظ: وأنكما من أهل الجنة} والسبب أنه زاره في الله.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه يقول: {قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتزاورين في، والمتجالسين في، والمتباذلين في} المتجالسون الذين لا يجلسون إلا على محبة الله، ويتزاورون محبةً في الله، ويبذل بعضهم بعضاً لله عز وجل، فهؤلاء وجبت لهم محبة الحي القيوم، هذا هو الحب في الله عز وجل، يقول الإمام الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
قال له الإمام أحمد:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم قد تناولنا الشفاعة
لأن الإمام الشافعي من أهل البيت، لكن من تواضعه يقول: أما أنا، فإن من صفاتي أنني أحب كل صالح ولو لم أعمل بعمله، وأنا عاصي -تواضعاً منه- لكني أحب الصالحين، وأكره العصاة وبضاعتي مثل بضاعتهم؛ ولذلك من علامة المؤمن أنه يحب المؤمنين ولو لم يعمل بعملهم، ويبغض العصاة ولو يعمل بعملهم، ومن علامة المنافق أنه يكره الطائعين ويعاديهم، ويحب العصاة ويعمل بعملهم، فهذا فارق بين من يحب في الله عز وجل ومن يحب لغير الله.
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: {كان صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطبنا، فدخل أعرابي فقطع خطبته وقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فسكت صلى الله عليه وسلم، ولما انتهى من الخطبة، قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: ماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صيام ولا صلاة ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله.
قال: المرء يحشر مع من أحب.
قال أنس: فوالله ما فرحنا بمثل هذا الحديث، فنحن نحب رسول الله وأبا بكر وعمر، ولو لم نعمل بعملهم}.
ويوم يأتي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، فيستنفر الناس للقتال، ويقف على المنبر ويحثهم على المعركة، يقول أحد الشباب: يا رسول الله! اتركنا نخرج إلى المعركة.
لأنه عليه الصلاة والسلام قال: القتال سوف يكون داخل المدينة، وهذا هو الرأي الأصوب، وقد أشار عليه كبار الصحابة أن يبقى محصناً داخل المدينة، حتى يدخل كفار قريش، ويكون قتلهم داخل المدينة، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الرأي، قام أحد الشباب واسمه سالم بن مالك، وقال: يا رسول الله! لا تحرمنا لقاء الأعداء، ولا تحرمني دخول الجنة، والله الذي لا إله إلا هو لأدخلن الجنة.
فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: بماذا تدخل الجنة؟ قال: بأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف.
قال: إن تصدق الله يصدقك.
فقتل في المعركة، وكان من أهل الجنة، والسبب أنه يحب الله ورسوله.
وذكر ابن كثير في البداية والنهاية، عن بعض أمراء بني أيوب، قال: كان في الدنيا عليه بعض الخطايا، وكان من الأمراء الذين أفادوا في الجهاد، فلما توفي رآه العلماء في المنام، وله جناحان من نور، يطير في الجنة من شجرة إلى شجرة، فقالوا: أنت فلان؟ قال: نعم.
قالوا: والله ما كان عملك في الدنيا بذاك.
قال: أما سمعتم أن في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: {المرء يحشر مع من أحب}؟ قالوا: بلى.
قال: فوالله الذي لا إله إلا هو، ما كان في الدنيا شيء أحب إلي من الله ورسوله.
فبلغته المحبة مع شيء من العمل إلى هذه المنزلة، ولكن لا يغتر مغتر، كما يقول: الحسن [[لا يقل أحدكم: المرء يحشر مع من أحب.
ويعمل عمل الجبارين، ويريد أن يحشر مع الطائعين]] فإن النصارى أحبوا عيسى حتى ألَّهوه، وهم في النار وهو في الجنة، لكن المقصود أن يكون هناك أصول من العمل، ثم تحب من ارتفع عليك في المنزلة، فإن الله سوف يحشرك في زمرته، بشرط أن يكون لك عمل من طاعة ومن فرائض وواجبات، فإن الله عز وجل سوف يبلغك منزلة الذي ما بلغت منزلته بالعمل.
وأكثر ما سمع في التاريخ أنهم تحابوا في ذات الله هم الصحابة، حتى يقول عمر: [[يا أيها الناس! والله إنها لتطول بي الليلة شوقاً لأحدكم أو لبعضكم، فإذا أصبحت الصباح التزمته]] يتذكر عمر أحد الصحابة، فتطول عليه الليلة، فيأتي الصباح فيلتزم الصحابي وهي لم تمر إلا ليلة واحدة.
وكان علي رضي الله عنه وأرضاه، يتذكر الصحابة -كما ذكر ابن كثير في ترجمته- ويبكي بعد صلاة الفجر، ويقول كلاماً ما معناه: ذهبوا وخلفوني.
ولما نزل إلى طلحة بعد أن قتل، مسح التراب عن وجهه وقبله وقال: أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن قال فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] والذي أسس بينهم الإخاء هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكانوا إخواناً كما أراد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].