ابن عباد هذا ملك الأندلس كان عنده من الحدائق والقصور ما الله به عليم، يقولون: كان يسكن في إشبيليا وله منازل في قرطبة، قالوا: كان نصف المدينة له والنصف الآخر للناس، ونذرت امرأته نذراً، أن تحمل الماء وأن تطأ في الطين -يعني: من باب الترف- يعني: تذكرت أحوال الفقراء وهي امرأة ملك، فنذرت وحلفت أن تنزل وتحمل الماء في القرب وتطأ في الطين، فأتى ابن عباد وقال: لا يصلح نحن أسرة عارمة متقدمة ولا يمكن هذا، فاستفتى بعض الفقهاء وقالوا: مادام أنها نذرت نرى أن تملأ لها ماء المسك في القربة، وأن تعجن لها طيناً من المسك والكافور في القصر، يملئون لها قربة من العطر بدل الماء، وتأخذ هذا ثم تمرون على المرمر، فتصبغون لها مسلكاً كالطين، وتمشي وهي حافية وتذهب وتأتي، وقالت: وفيت بنذري، وهو ليس بصحيح، وأتت الأيام ودارت دورتها، وأتى ابن تاشفين من بلاد المغرب ودخل ضيفاً على ابن عباد، وبعد أن ضيفه وأكرمه ثلاثة أيام طوقه كما فعل حاكم العراق بـ الكويت:
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني
وبعد ثلاثة أيام، طوق قصر ابن عباد واحتل القصر بما فيه، وأخذ صاحب المنزل الذي ضيفه وأكرمه فطوقه بالحديد، وأخذ بناته وجعلهن جواري له، وأصبح ابن عباد في أغمات فقيراً لا أهل ولا مال ولا ولد ولا ثياب ولا منصب، وسجنه، وفي يوم العيد -اسمع إلى الموقف- وينتظر ابن عباد وإذا من يطرق عليه الباب، ففتحوا الباب فإذا هو ببناته الأربع، وإذا هن حافيات ما عليهن إلا ما يستر عوراتهن، فبكى بكاء مراً حتى سمع من في السجن ثم قال قصيدته المشهورة، يقول وهو يخاطب نفسه:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
أصبحن يغزلن للناس، وينسجن لهم الخزف، ويخرزن لهم الجلود.
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
أصبحن بلا حذاء، كل واحدة كأنها ما وطأت المسك والكافور، إلى آخر ما قال، وهي قصيدة تفجع القلوب.
دخل عليه أحد الشعراء فرأى ابن عباد في السجن، فبكى الشاعر وقال:
تنشَّق رياحين السلام فإنما أخض بها مسكاً عليك مختماً
وقل لي مجازاً إن عدمت حقيقة فقد كنت ذا نعم وقد كنت منعما
فشقت عليك الريح ثوبك بعدها وهز عليك الرعد ثوبك معلما
إلى آخر ما قال، وهؤلاء ممن نكبوا.