وذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه يصيب الأقوام ليتعظوا، وألمح سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن من الظلمة من يسكن مكان الظلمة ثم لا يتعظ، قال عز وجل وهو يلوم الكفار والمنافقين والمنحرفين: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:45] ومعنى الآية، أن الأبناء سكنوا في أماكن الآباء والآباء في أماكن الأجداد، وقد هلك قرن وأتى قرن، فما اتعظ هذا الحي بما أصاب الميت.
واسمع إلى الآية: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [إبراهيم:45] نزلتم قصورهم، وسكنتم دورهم، وورثتم أملاكهم، فما لكم ما اتعظتم بما وقع عليهم، أوَ ما كان هذا لكم نذير؟! {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:45] ولكن لم يتعظوا بالمثل، ولم يستفيدوا بالتجربة، والتجارب هذه إنما تستفاد من مصائب وحياة الناس، وقد علق البخاري من كلام معاوية رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[لا حكيم إلا ذو تجربة]] وهذا في باب الأدب في صحيح البخاري.
وهي مدرسة الحياة، قال سفيان الثوري رحمه الله رحمة واسعة: "لاعب ابنك سبعاً، وأدبه سبعاً، وصاحبه سبعاً، ثم اتركه مع التجارب" أي: لاعبه حتى يصل إلى السابعة، ثم أدبه من السابعة إلى الرابعة عشرة، ثم من الرابعة عشرة سنة إلى الواحدة والعشرين سنة صاحبه ثم بعد الواحدة والعشرين اتركه مع تجارب الدنيا، يصاب ويصيب، ويأتيه من الأخبار الأمور ما تجعله ملقناً، مجرباً، حكيماً، إذا كان ذو عقل.
تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {كان الرسول عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يتمثل بقول طرفة بن العبد}
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
والرسول عليه الصلاة والسلام لا يحفظ إلا بيتين، أو أكثر قليلاً، وإلا فهو يحفظ القرآن عن ظهر قلب، لا يسقط منه حرفاً واحداً، ويحفظ السنة، والعلوم التي عند الأمة لا تصل إلى ذرة من علمه عليه الصلاة والسلام، ولكن يقول الله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] تراثه غير الشعر، فيقول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
يعني: سوف تظهر لك الليالي والساعات أخباراً وعجائب، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] أي: مرة رخاء ومرة شدة، ومرة سلم، ومرة حرب، وما وقع في هذه الأيام، اتعاظ ودرس لمن لم يقع عليهم شيء، قال: سبحانه: {(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ} [الأحقاف:27] أي انظروا إلى القريبين منكم، وانظروا إلى حدودكم، كيف أوقعنا بهم المصائب، ألكم أنتم عهد عند الله ألا يقع عليكم مصيبة! {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] ويقول الناظم:
إياك أعني واسمعي يا جارة، يُقال أن سبب هذا المثل: أن صياداً خرج بقوسه يصيد حماماً، وأحمق الحيوانات الحمام، حتى ذكر الجاحظ صاحب كتاب الحيوان أن أحمق الحيوانات الحمام، وأحقد الحيوانات الجمال، وأخونها الثعالب، قال: فسدد الرجل على الحمام ليضربها، وأخذت تصيح، فقالت أختها تسكتها: إن البلاء موكل بالمنطق، فضربها الصياد، فقالت وهي تموت: يالها من سكتة فاتتني، والمقصود من هذا: أن هذا جزاء من لم يتعظ بجيرانه، وما حدث لإخوانه، يقول ابن القيم مما يحفظ للعرب من الأمثال: أنهم قالوا: "في كل وادٍ بنو سعد" وقالوا: " هل رأيت داراً ملئت حبرة وما ملئت عبرة؟ "
وإذا رأيت الدور تمتليء غنىً وبهجةً وترفاً، ثم لا يتصل أصحابها بالله، فاعلم أنه سوف تصيبهم كوارث، وما امتلأت دار حبرة إلا امتلأت عبرة، وسبب المثل "في كل وادٍ بنو سعد": أن رجلاً من العرب ضيع جمله، فذهب يبحث عن الجمل، فنزل بوادٍ فقال: ممن القوم؟ قالوا: من بني سعد، وذهب إلى الوادي الآخر وقال ممن القوم؟ قالوا: من بني سعد، والوادي الثالث قالوا: من بنو بني سعد، قال: في كل وادٍ بنو سعد، فمقصود ابن القيم أن كل إنسان تأتيه لطمة.
وهذا قضاء الله وقدره، ولا يسلم من الكوارث أحد، إما في الدين أو في العرض بالسكنى أو بالتعليم، وهذا أمر حاصل في حياة الناس، ولكن المسلم يختلف عن الآخر أنه: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24].