استصغار الذنوب

ومن آثارها: استصغار الذنوب واحتقار الكبائر.

فإن العبد لا يزال يحتقر الذنوب والكبائر حتى تصبح عنده كالهوى وشرب الماء، وبعضهم يغتاب فيُوصي، فيقول: الغيبة سهلة، وبعضهم يترك الصلاة في الجماعة، فيقال له: صلِّ في الجماعة.

فيقول: يكفي أن أصلي في البيت، فإن بعض الناس ما يصلي الصلاة مطلقاً فأنا خير منهم، فلذلك لا تلوموني على هذا.

وبعضهم يطول إزاره ويقول: سبحان الله! ليتك ترى الناس في أوروبا، ليتك سافرت ورأيت الناس في أمريكا.

فينزل نفسه إلى منزلة الكافر ويقيس نفسه بالكافر.

ويأتي إلى أهل الدعارات والخيانات فيجعل بينه وبينهم نسب، وإذا قيل له: لا تسبل إزارك.

قال: أنت في الإزار وفي اللحية، والناس أصبحوا الآن في مسائل غير هذه المسائل، ألا تعرفون إلا الإزار واللحية؟!

وذلك لأنها هانت عليه، وأصبحت عنده قشور، والمصاب بمرض عضال لا يهمه الزكام، فإذا كان عنده مرض السرطان أو السل، أو مرض من الأمراض الفتاكة، ويؤتى إليه في المستشفى ويُقال له: نعالجك أولاً من الزكام، فيقول: الزكام هذا أمره سهل وسوف يذهب، لكن عالجوني من هذا المرض الفتاك.

وكان ابن تيمية يستشهد ببيت شعر ويقول:

إن اللبيب إذا شكا من جسمه مرضين مختلفين داوى الأخطرا

فحذار حذار من استصغار الذنوب! فإنه لا يزال العبد يستصغر الذنوب حتى يسقط من عين الله، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم جعل ذنوب أصناف من الناس أعظم من ذنوب غيرهم، وقد صح في الحديث أنه قال: {ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب} من هم؟

لا ينظر الله إليهم يوم القيامة لأنهم سقطوا من عينه في الدنيا، ولا يزكيهم فشهادتهم ساقطة، وليس لهم عند الله قبول، ولهم عذاب إليم: {أشيمط زانٍ} شيخ كبير عجوز يزني، شابت لحيته، وبدا له الشيب وهو النذير: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ} [فاطر:37] ومعلوم الزنا من الشباب حرام وكبيرة، لكنه مضاعف أن يزني الشيخ الكبير، ولماذا يزني؟

قد ضعفت قوته، ورأى نذير الشيب، واقترب من لقاء الله، وأنذرته السنوات، وعاش الأيام والليالي، ودفن الأموات من والأجداد والأحفاد ومع ذلك يزني! لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم، وهو أدهى وأمر.

ولذلك تستبشع إذا رأيت إنساناً في الخمسين من عمره وهو جالس في المقهى يشرب الشيشة، وإذا رأيت شاباً عمره 15 أو 18سنة ربما تستسهل هذا الأمر ولو أنك تستقبحه، لكن أن ترى إنساناً كبير السن عنده أطفال بالبيت وزوجة وأولاد، فيتركهم على المسرحية والغناء والمجلة، ويذهب بعد صلاة العشاء إلى الساعة الثانية يشرب الشيشة، هل رأيت أحقر من هذا؟ وكيف يزكى؟ هذا ليس عنده واعظ.

الإمام أحمد رأى الشيب في المرآة فبكى حتى كادت أضلاعه أن تختلف، فقالوا: مالك؟ قال: يقول الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ} [فاطر:37] هذا هو النذير.

أي: الشيب.

ويروى عن إبراهيم عليه السلام أنه نظر إلى المرآة فرأى شعرة بيضاء فنظر إليها وقال: يا رب! ما هذا البياض؟ قال: وقار يا إبراهيم.

قال: اللهم زدني وقاراً.

ولذلك ورد في حديث حسن: {ما شاب العبد شيبة في الإسلام إلا كانت له حسنة} فهذا الشيب معناه أنه يردعك عن المعاصي.

مر شيخ كبير بشباب يلعبون في شارع من شوارع الكوفة، فقال أحدهم لهذا الشيخ:

يا أبتاه! من الذي أعطاك هذا القوس الذي على صدرك؟

فقال الشيخ الكبير: هذا القوس أعطانيه الدهر بلا ثمن، وسوف يعطيك قوساً مثله.

يقول: انتظر، فسوف يأتيك.

تمنت عجوز أن تعود فتية وقد يبس الجنبان واحدودب الظهر

تسير إلى العطار تبغي شبابها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر

من يعيد شبابه إلا العمل الصالح؟

ومن يعيد قوته ومجده وجاهه إلا تقوى الله عز وجل؟

أما إذا ولى العمر ولى.

{وعائل مستكبر} رجل فقير ممزق ليس عنده شيء، ومع ذلك لا ينظر إلى الناس، ولو كان هذا الأمر من غني لكان قبيحاً، لكنه فقير ويتكبر ممزق الثياب، وينام على الرصيف وتسحبه الكلاب بأيديه وأرجله، وكل شيء فيه، ومع ذلك ينظر إلى الناس ويزدريهم ويحتقرهم كأنهم الذباب فهذا لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.

قال عليه الصلاة والسلام: {وملك كذاب} سلطان من السلاطين ليس في حاجة إلى أن يكذب فيكذب، ولماذا يكذب والكذب إنما هو لدرء خوف، وهو لا يخاف من الناس في العادة، أو لجلب منفعة والمنفعة عنده، فلماذا يكذب؟! فلا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015