ومن عقوباتها: أنها توهن القلب والبدن.
فأما القلب فتضعفه حتى يبقى جدثاً -والعياذ بالله- للمعاصي، وصنماً للخرافات، ومنتجعاً للوساخات والقاذورات، ولذلك تجد قلوب الزناة كالحمامات فالذين يستمرئون الزنا قلوبهم كالحمامات تماماً، ليس فيها قرآن ولا ذكر، ولا حب لله ولا للرسول صلى الله عليه وسلم ولا للصالحين، بل هي كالبيت الخرب، حتى يذكر ابن القيم وصفاً لهم في كتاب الفوائد فيقول: ففي هذه البيوت -أي: القلوب التي تشبه البيوت الخربة والخرابات- من البوم والعقارب والحيات والخرافات والخزعبلات ما الله به عليم.
وعند الترمذي قوله عليه الصلاة والسلام: {إن القلب الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب} فلا يزال العبد يخرب قلبه بسماع الغناء وبحب الفاحشة، والتفكر في الجريمة والمعاصي، ومخالطة السيئين؛ حتى يصبح قلبه كالحمام والعياذ بالله، فيصبح مأوى لكل خسارة ونذالة، فلا يصفو ولا يفهم ولا يرق بسبب ذنوبه.
وأما ضعف البدن فقد قال ابن القيم: فانظر إلى أجسام فارس والروم، لما قاتلوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بأجسام طويلة وأخشاب مديدة وأعضاء قوية، فما نفعهم ذلك بل انهزموا والله.
كان جيش الروم في معركة اليرموك (280) ألفاً، وجيش خالد بن الوليد (30ألفاً، فالتقى هؤلاء وهؤلاء، وخرج حزب الشيطان بأجسام طويلة، عليهم الديباج والحرير والتيجان، ومعهم السيوف المذهبة والخيول المتوجة، وعندهم كبر وبطر، وخرج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أجسام نحيفة، ولكن على جباههم السجدات، وعليهم الأذكار، وعليهم تقوى الله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] فالتقى الجمعان، وتراءى الفريقان، وخرج الحزبان، وأقبل جيش الروم والكتائب كالجبال، كل كتيبة ما يقارب عشرة آلاف، فقال بعض المسلمين لـ خالد لما رأى جيش الروم وكثرتهم، قال: يا خالد! اليوم أظننا نفر إلى جبل سلمى وآجى في حائل من كثرتهم.
فدمعت عينا خالد والتفت إلى السماء وقال: لا والله، لا نفر إلى جبل سلمى ولا إلى أجا ولكن إلى الله الملتجا.
فتقدم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ملائكته وأنزل نصره، فذبحوا تلك الأجسام وبددوها بالسيوف ومزقوها وداسوها في الأرض، وفتح الله لهم الأرض شرقاً وغربا وشمالاً وجنوباً؛ بسبب إخلاصهم وقوتهم ونصرتهم للواحد الأحد.
يقول محمد إقبال:
فكم ماتت زهور في الروابي وكم بادت نخيل في البوادي
ولكن زهرة الإسلام تبقى على مر العواصف والعوادي
ونورك في ضحى الإسلام باقٍ بقاء الشمس والسبع الشداد
فمن أراد النصر فعليه بتقوى الله، يقول الله عن المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] وقال حسان فيهم:
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير
فعندهم قلوب، لكن قلوب ليس فيها نور، ولا تفهم ولا تعي.
فقل للعيون الرمد للشمس أعينٌ تراها بحق في مغيب ومطلع
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيق ولا تعي
كان ابن مسعود طوله أشباراً جسمه كالصقر، وعظامه نحيلة كالأصابع، ولحمه خفيف، لكن عنده قلبٌ كالجبل يحفظ القرآن، ويقوم الليل، ويدعو إلى الله، وهو صادق مع الله صعد شجرة من الشجر فهزته الريح، فتحركت الشجرة والغصن وابن مسعود، فتضاحك الصحابة، فقال صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد} إنها المبادئ الخالدة ورسوخ المعاني.
ولذلك تجد في المسلمين الإنسان كأنه حربة أو عصى أو عود وهو يشكل ملايين وطلائع وجبال من بعض الناس.
والناس ألف منهم كواحدٍ وواحدٌ كالألف إن أمر عنا
وتجد المتكبر ضخماً كبيراً، ولكنه يحشر يوم القيامة في صورة الذر يطؤه الناس بأقدامهم، وهذا ليس على الإطلاق، فإن بعض المؤمنين سمين بدين لكنه مؤمن بالله، مثل عمر بن الخطاب، كان إذا مشى كأنه راكب، كان مهولاً كالحصن، حتى قال بعضهم -والله أعلم بصحتها- يقولون: إن الحلاق أخذ يحلق رأسه بـ منى فعطس فأغمي على الحلاق، فرش بالماء، حتى يقول فيه الشاعر:
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
فجعل الله له هيبة في المبدأ وفي العقل والجسم والقلب، كان له عصا تخرج الشياطين من رءوس أصحابه، يجوب بها المدينة، وصح أن عفريتاً من أقوى الجن لقيه في شارع من شوارع المدينة، فقال عمر: من أنت؟ قال: أنا جني عفريت من العفاريت.
قال: أتصارعني؟
وعمر يحب المصارعة دائماً؛ لأنه عاش المصارعة بين الحق والباطل، عاش الجاهلية والإسلام عاش النور والظلام عاش الحق والباطل، فقال: نعم أصارعك.
فأخذه عمر ثم طرحه أرضاً، فقام العفريت ثانية فطرحه، فقام ثالثة فطرحه وبرك على صدره حتى تاب.
ولذلك جاء في صحيح البخاري: {ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك} يأتي عمر من هنا فيأتي الشيطان من هناك، يهرب دائماً لقوة قلبه، فليس من الصحيح على الإطلاق أن يكون المؤمن دائماً نحيفاً.
وكذلك قد تجد بعض الفجرة نحيفاً كالعصا، لكنه فاجر أعمى، جمع: (حشفاً وسوء كيلة) تجده نحيفاً يابساً هزيلاً ميتاً، لكنه يدمر من المعاصي ما لا تدمره الألوف المؤلفة؛ فليس هذا الأمر على إطلاقه.
وإنما أقول: ليست العبرة بالأجسام طولاً أو قصراً، وإنما الشاهد أن المعاصي توهن الأبدان، فالفاجر أخوف الناس قلباً وأبعدهم شجاعة وأقلهم حماساً، ولذلك تجد في الجيوش -دائماً- إذا التقى أهل الفجور والمعاصي فهم أهل الهزائم، وما انهزم العرب مع إسرائيل إلا لمعاصيهم؛ فإن أحد قادات العرب لما وصل إلى الفالوجة في فلسطين، قال له بعض الناس: نصلي.
قال: لا نصلي إلا إذا عدنا إلى بلادنا.
فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فترك جزمته هناك وفر هارباً فر من الموت وفي الموت وقع.
لقد ذهب الحمار بأم عمروٍ فلا رجعت ولا رجع الحمار
ولكن وجد من عباد الله في أفغانستان أناس بسطاء آمنوا بالله، عليهم لفائف من القماش، وأجسامهم نحيفة، ومع ذلك قاوموا الدبابات، ووقفوا في وجه الطائرات، وفجروا -بإذن الله عز وجل- قوىً عالمية هائلة، وأرغموا الملحد وسحقوه ودمروه، وهزموه، وفضحوه، ومزقوه، وأفشلوه أمام العالم، وهذه عظة وعبرة.