الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
دمعة الزهد فوق خدك خرسا ووجيب الفؤاد يحدث جرسا
أنت من أنت يا محب وماذا في حناياك هل تحملت مسا
ما لهذي الدموع مالك صبٌ حالكم مأتمٌ وقد كان عرسا
شامة الزهد في مُحيَّاك صارت قصةً تطمس الحكايات طمسا
لاطفوني هددتهم هددوني بالمنايا لاطفت حتى أُحَسَُا
أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني ركبت في الحق نفسا
أطرد الموت مقدماً فيولي والمنايا أجتاحها وهي نعسى
قد بكت غربتي الرمال وقالت يا أبا ذر لا تخف وتأسا
قلت لا خوف لم أزل في شباب من يقيني ما مت حتى أدسا
أنا عاهدت صاحبي وخليلي وتلقنت من أماليه درسا
لوحوا بالكنوز راموا محالاً وأروني تلك الدنانير ملسا
كلها لا أريد فكوا عناني أطلقوا مهجتي فرأسي أقسى
واتركوني أذوب في كل قلب أغرس الحب في حناياه غرسا
أجتلي كل روضة بدموعي وأبث الأزهار في الروض همسا
هذه مقطوعة من قصيدة: أبو ذر في القرن الخامس عشر، وهو صاحبنا هذه الليلة، وهو ربان الرحلة، وهو أستاذ القصة وبطلها، وسوف نجلس معه أكثر من ساعة، لنسمع أخباره، ولننثر عليكم أسراره، ولنربط بينه وبين حياتنا الآن في عصر الكمبيوتر، فما علاقة هذا الرجل الصحابي المجاهد الزاهد الذي مات في الصحراء بهذا الجهاز الذي اكتشف في هذا العصر؟
ثلاث مسائل:
أولها: هل تثقف الإنسان يوم اكتشف الكمبيوتر؟
هل تثقفت روحه؟
هل أشرقت نفسه؟
هل تجلى خاطره؟
هل زاد نوره؛ لأنه اكتشف الكمبيوتر والمكبر والكهرباء والطائرة والصاروخ والثلاجة والبرادة؟
و صلى الله عليه وسلم لا.
إن الذين اكتشفوا هذه الأمور يَشْكُون من ضيق الصدر والقلق والاضطراب والمرض، والتشنج، والانتحار، نشرت صحيفة الظهيرة في الافتتاحية: طبيب يعالج من السرطان قتل نفسه، يقولون: كان يداوي الناس، ثم أخذ الخنجر وذبح نفسه، لأنه ضاق خاطره، فمع هذا العلم والاكتشاف أتى الانتحار، وأتى القلق، وأتى الضيق، قلقٌ وضيق لم يعشه أبو ذر، ولم يجده أبو ذر، بل كان صدره فسيحاً على خبز، وعلى خيمة، ومع قطيعٍ من الماعز، وهو عنده أثمن من الطائرة، ومن الصاروخ، ومن الكمبيوتر.
إذن يقول الله سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
هل خطر لمن اكتشف الكمبيوتر أن الله سوف يجمع الأولين والآخرين إلى يوم لا ريب فيه؟
هل خطر له أن هناك جنةً وحساباً وميزاناً وكوثراً؟
هل سمع في حياته أن هناك نعيماً ورؤيةً لله؟
إنما أسعد البشرية، وأشقى نفسه!
وهل تذكر من اكتشف الكهرباء أن الله عز وجل سوف يبرز للناس يوم القيامة؟
قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
هذا إيمان بالمادة، وهو إيمان مقطوع مبتور، ولذلكم ظهر بعض الناس ممن اكتشف هذه الاكتشافات، ونسوا أنهم نسوا مصيرهم: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].
ثانياً: كان من الوسائل التي أريد أن أربط بينها وبين عنوان المحاضرة، وقد سبقت في محاضرة الأسبوع الماضي من باب التنبيه، بعنوانها "الممتاز في مناقب الشيخ عبد العزيز بن باز " وعشنا مع هذا الرجل العصري الذي نور الله قلبه يوم فقدَ بصره.
المسألة الثانية: هل تغير الإنسان باكتشافه؟
هل أكل أكثر مما يأكل؟
هل رأى في الحياة متعاً أكثر مما رآها أبو ذر؟
أما عاش ذاك ستين وهذا ستين؟!
أما مات ذاك ومات هذا؟!
أما ذاق هذا الماء وذاك الماء؟!
ولكن المصير عند الله.
ثالثاً: هل السعادة التي بحث عنها الإنسان وجدها؟
أنا قلت: هل يمر بالصحابي مثلما يمر الآن بالمكتشف أو المخترع الأوروبي، أو الفرنسي، أو الأمريكي، أو الياباني من القلق والاضطراب والحيرة والضيق، والأمراض النفسية، هل وجد هذا؟
لا، كان أبو ذر سعيداً، وما هو أكْلُ أبي ذر؟
لم يسكن قصراً، ولم يركب سيارةً، ولم يمتط طائرةً، وما كان عنده ثلاجة ولا برادة ولا سخانة، ولا كهرباء ولا ماء مبرد أو مثلج، إنما كان متاعه شملة، وكسرة خبز، وقربة معلقة، وصحفة وعصا؛ دخلوا عليه، وهو في مرض الموت، قالوا: أين متاعك؟
قال: هذا، فوجدوا شملة يكتسي بشيء منها، ويفرش لضيفه، ويرتديها في المنام، ووجدوا صحفة يغتسل فيها، ويأكل فيها طعامه، يقرب فيها ماءه، وقربة، وعصا، قالوا: وأين بقية المتاع؟
قال: {إن رسولي وحبيبي صلى الله عليه وسلم أخبرني أن أمامي عقبةً كئوداً، وأنه لا يجتازها إلا المخف}.
أمامنا عقبة المخف فيها يصعد، وهي عقبة الآخرة والحساب، يقول الشيخ حافظ الحكمي:
هم المقلون الذين أكثروا إلا إذا لم يسرفوا أو يقتروا
والمال والأولاد فتنة وما للمرء نافع سوى ما قدما
وإنما الغنى غنى النفس ولا عبرة بالتراث بل هو ابتلا
لو كان في المال افتخار لم يرا آل الرسول والصحاب فقرا
فهذا الشيخ حافظ يدبج لك كلاماً بديعاً، وهو زاهد جيزان وعالم جيزان، يقول:
خذ واضح الحل ودع مكسبها مخافة المحذور يا من فقها
وازهد بدنياك وأقصر الأمل واجعل لوجه الله أجمع العمل
وزهرة الدنيا بها لا تفتتن ولا تغرنك وكن ممن فطن
تالله لو علمت ما وراءكا لما ضحكت ولأكثرت البكا