ذم السؤال لغير حاجة

وقوله صلى الله عليه وسلم: {ومنعاً وهات} فيه ذم السؤال، "هات" أي: الذي يسأل الناس تكثراً بلا حاجة، فقد ذمه صلى الله عليه وسلم، قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة:273] وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {لأن يأخذ أحدكم حباله فيذهب إلى الجبال فيحتطب ويبيع خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه} لا يحوز لك أن تسأل تكثراً عما يغنيك، فإنه حرام، ولذلك أحذر الذين اتخذوا الشحاذة والمسألة طريقاً في جمع الأموال، بل كشف عن بعضهم فإذا هو يمتلك خمسمائة ألف، وبعضهم بلغ الملايين المملينة في البنوك، وهو يتخذ من الشحاذة طريقاً ومهنة، وسوف يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم بل عظام فقط، قال صلى الله عليه وسلم: {من يسأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر، ولا تزال المسألة بالرجل حتى يأتي وجهه خدوش ليس فيه مزعة لحم يوم القيامة} يأتي ووجهه مقطع لأنه ما استحيا من الله، ثم ما استحيا من خلقه، ولا تجوز المسألة للقوي الذي يكسب ويستطيع أن يزاول العمل، ولا تجوز أيضاً لمن عنده غنى وكسب.

ولذلك يفاجأ الإنسان حين يرى الأقوياء الفتيان الشباب يقفون أمام الناس، ويسأل أحدهم يا خيبتاه! شاب قوي يستطيع أن يعمل، يستطيع أن يكدح ويشتغل وينتج ومع هذا يسأل الناس، ومثل هذا لا يعطى لأنه قوي يستطيع أن يكسب.

كان رجل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الناس، فدعاه صلى الله عليه وسلم فأعطاه درهمين، ثم قال: {اشتر بهذا قدوماً أو فأساً، وخذ بهذا طعاماً لأهلك} يعلمه صلى الله عليه وسلم طريقة الإنتاج والعمل، يفتح له ورشة، وطريقاً للعمل والكسب وطلب الرزق الحلال، فذهب واشترى طعاماً لأهله، ثم أتى بفأس فأتي به في خشبة فركبه له صلى الله عليه وسلم ليكون مباركاً وقال: {اذهب بارك الله لك لا أراك شهراً} فيما يروى عنه، يقول: اذهب احتطب وبع، فكان يذهب في النهار، فيقتطع من الشجر، ويبيع في أسواق المدينة حتى أصبح غنياً، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه أصبح غنياً، وقد أطعم أهله وكساهم وتصدق؛ قال صلى الله عليه وسلم: {لأن يذهب أحدكم فيأخذ حبالاً فيحتطب فيبيع خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه}.

فالتحذير من هات هات؛ لأن بعض الناس يدمن على هذا، فيصبح وجهه صفيقاً لا حياء فيه، فيطلب الناس لغير الحاجة، حتى إن بعضهم قد يطلب لبعض الديون البسيطة التي على الناس أكثر منها، يفاجئك ويطلب يقول: علي مبلغ كذا وكذا، ولقد مات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعاً من شعير ولا يوجد من سلم من الدين.

ومات الخلفاء الراشدون وأكثرهم مدين، وكذلك العلماء والأخيار والأبرار، فأن يجعل الإنسان وجهه صفيقاً وهو شاب قوي قادر ليس بصحيح.

أيضاً الإسلام يعالج مبدأ العطالة والبطالة، ونحن نعيشها في بعض الصور، فقد تجد الشاب كسلان لا يشتغل، طرق العمل مفتوحة لكن لكسله يقف دائماً حائراً نائماً في بيته يتسلف ويقترض من الناس، فلا ينفع أهله ولا ينفع نفسه ولا أمته، فمثل هذا يحذر منه الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: {اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول} فاليد العليا هي اليد المعطية، واليد السفلى هي اليد الآخذة.

وقد بايع صلى الله عليه وسلم جماعة من صحابته (ستة أو سبعة) على ألا يسألوا الناس شيئاً، ومنهم أبو بكر الصديق ومالك بن عوف، فكان يسقط سوط أحدهم في الأرض، فلا يقول للرجل: (ناولني) بل ينزل بنفسه يأخذه، فبايعهم صلى الله عليه وسلم تكريما لهم على ألا يسأل أحدهم الناس شيئاً.

فمن كرامتك على الله عز وجل أن يغنيك عمن أغناه عنك، ومن الدعاء الطيب: اللهم أغننا عمن أغنيته عنا، فلا يكون لك حاجة إلى أحد؛ إنما حاجتك إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، إلا في ضرورات لا بد منها كالديات أو بعض الورطات أو الحوادث التي لا يستطيع الإنسان تسديدها.

يقول المقنع الكندي يمدح نفسه:

لهم جل مالي إن تتابع لي غنىً وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا

يقول: أنا إن كثر مالي أنفقته على قومي، وإذا قل لا أكلفهم رفداً.

وإنما بلغ حاتم الطائي هذا الذكر العظيم في الناس؛ أنه كان إذا وضع الطعام بين يديه يقول لامرأته: التمسي من يأكل معي، فإني لا آكل وحدي، فيبقى الطعام موضوعاً حتى تأتي امرأته أو أبناؤه بضيف، حتى يقول في قصيدة له:

إذا ما وضعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي

وقال عروة بن الورد في قصيدة له:

أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد

أوزع جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء والماء بارد

فإني امرؤ عافي إنائي شركة وأنت امرؤ عافي إنائك واحد

وهي أبيات جميلة لا يتسع المقام لذكرها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015