روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه قال: حضرته الوفاة في مصر، وكان والياً على مصر، وفاتح مصر، ومعلم أهل مصر وهو أرطبون العرب، وداهية الإسلام، الذي دوخ ملوك الكفر حتى دخلوا في هذا الدين.
حضرته الوفاة، فإذا هو متجرد من دهائه وذكائه، وإذا هو متجرد من منصبه وأمواله وأولاده، ذهب المنصب والمال والأولاد، وإذا هو متجرد من كل شيء إلا من العمل، وكان معه أناس من وزرائه وأولاده وأصحابه، فحول وجهه إلى الحائط وبكى بكاءً طويلاً، فجاء ابنه عبد الله بن عمرو الزاهد العابد، فقال: يا أبتاه! ما لك تبكي -وأراد أن يحسن ظنه بالله عز وجل- يا أبتاه! أما صحبت الرسول صلى الله عليه وسلم، أما ولاك غزوة ذات السلاسل؟ أما مدحك؟ أما صحبت أبا بكر وعمر؟ أما فتحت مصر؟ أما جاهدت؟ أما فعلت؟
فلما طال كلام ابنه عبد الله، وطال بكاء عمرو، التفت عمرو إلى الناس، فقال: أيها الناس! إني عشت حياتي على طباق ثلاث -وسوف أعرضها لكم، وهو في سكرات الموت، يتكلم عن سجل حياته ويعيد لهم التاريخ مرة ثانية من يوم ولد إلى أن يلقى الله في هذه الساعة.
اسمع إلى أنبائه وأخباره- يقول: [[إني عشت حياتي على ثلاث طباق كنت في الجاهلية لا أعرف الإسلام، وكان أبغض الناس إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو تمكنت منه لقتلته غيلة، ولو مت على تلك الحالة لكنت من أهل النار، ثم رزقني الله الإسلام، فهاجرت من مكة إلى المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجده، فلما رآني، هش وبش في وجهي بأبي هو وأمي واستقبلني، وقال: حيهلا يا عمرو! قال: فصحبته وأحسنت صحبته، ووالله ما كنت أملأ نظري منه صلى الله عليه وسلم حياءً منه، والله لو سألتموني الآن أن أصفه لكم- أي: أصف رسول الله صلى الله عليه وسلم- لما استطعت، فيا ليتني مت على تلك الحالة، ولو مت على تلك الحالة، لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم تخلفت بعده صلى الله عليه وسلم فلعبت بي الدنيا ظهراً لبطن، فوالله ما أدري هل يؤمر بي إلى الجنة فأنا من السعداء، أو يؤمر بي إلى النار فأنا من الأشقياء، لكن ليس معي من العمل إلا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم قبض يده على لا إله إلا الله، قال ابنه عبد الله: فأتينا لنغسله، وفتحنا أصابعه، فما استطعنا أن نفتحها وبقيت مضمومة، قال: فأدخلناه في كفنه وأصابعه مضمومة وأدخلناه في قبره وأصابعه مضمومة رضي الله عنه وأرضاه]].
فالعدة كل العدة أن تستعد لهذا المصرع، والحزم كل الحزم أن تحفظ وقتك، وأن تستعد بعمل صالح لهذا المصرع، والذكاء كل الذكاء أن تحفظ هذه السويعات التي تمر بك مرَّ الرياح، أو البرق الخاطف أن تستغلها فيما يقربك من الله.
الله الله لا يغتر الإنسان بشبابه وفراغه وصحته، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا أخذ؛ فإنه يأخذ أخذ عزيز مقتدر، وأنتم رأيتموهم ورأيناهم، شباب مترفون أقوياء مصطحون منعمون أهل أموال وثروة خرجوا من بيوت أهلهم، وما ودعوا أمهاتهم، ولا آباءهم، وعادوا أمواتاً وجثثاً هامدةً حتى ما استطاعوا أن يقولوا: السلام عليكم أيها الأهل والجيران، وإلى اللقاء، ما استطاعوا أن يقولوا: وداعاً وعادوا وقد انتهوا من هذه الحياة.
فالله الله لا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور! أعدوا ما استطعتم من العمل الصالح، فهذه الدقائق تقول لك: إن الموت قد حصل.
دقات قلب المرء قائلةً له إن الحياة دقائق وثوان
وكان سفيان الثوري رحمه الله إذا جلس مع الناس، يجلس قليلاً، وهو يسبح، ثم ينتفض، وإذا هو واقف، فيقولون له: ما لك يا أبا سعيد؟
قال: والله ذكرت الموت.
وإذا أردتم ترجمة سفيان فعليكم بـ" حلية الأولياء " لـ أبي نعيم، اقرءوا كيف كانوا، وكيف كانوا يتذكرون الموت، وكيف يعدون له، كان يتذكر الموت وهو في مجلس الحديث، فيقطع التحديث، والفتوى، والموعظة، ويبكي حتى يقولون: كأنه يصرع من البكاء، ثم يقول بأبيات الصلتان السعدي:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كرُّ الغداة ومرُّ العشي
إذا ليلةٌ حرمت يومها أتى بعد ذلك يومٌ فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجةً ما بقي
يسألونه ويقولون: يا أبا سعيد! ما حكم كذا وكذا؟ فيقول: والله! ما أدري ماذا تقول أيها السائل، قال: كيف لا تدري وأنا أتكلم بالعربية؟ قال: والله! لقد أنساني الموت كل شيء.
ولذلك يقول الذهبي: كان سبب موت سفيان الثوري أنه ذكر الموت فتفتت كبده حتى عرض ماؤه على الطبيب، قال: هذا الرجل لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.
فهذا رجل فتت ذكر الموت كبده، قرأ سورة "ألهاكم التكاثر" بعد صلاة العشاء، فبقي يرددها ويبكي حتى الصباح، كان يبكي أهله وجيرانه من بكائه رضي الله عنه وأرضاه، لأنه علم علم اليقين.
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:5] لأن علمنا الآن في الآخرة علم ظني ليس علم يقين، ندري أنا سوف نموت، وندفن الأجداد والآباء والأمهات والإخوان، لكنه علم ظني وعلم نظري، ما تعمق في قلوبنا، وإلا لو تعمق في قلوبنا لكنا أقبلنا على الله، وتجردنا إلى الله وأتينا بهمة وعزيمة إلى الله، وحفظنا أوقاتنا مع الله، لكنه علم نظري، فنحن نعرف أننا مسلمون، وأننا سوف نموت، ويقولون: هذه حياة، والله غفور رحيم، وهذه كلمات جوفاء، وهذه كلمات أصدرتها البلادة، وأصدرتها عدم المبالاة مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلا لو ذكرنا الموت لكانت حياتنا غير هذه الحياة.
فالله الله يا إخوتي في ذكر الموت دائماً وأبداً.
ميمون بن مهران الزاهد العابد التابعي حفر قبراً في حضيرته -بجانب داره- وسواه، وجعل فيه صفائح.
فدخل القبر وجعل يقرأ أجزاءً من القرآن، وبكى بكاءً طويلاً، ثم يعود ويخرج من القبر، ويقول: يا ميمون! خرجت من القبر، فاعمل عملاً صالحاً.
وبعضهم كان يأخذ كفناً ويفصله ويعلقه في سقف بيته، كلما أصبح نظر إلى الكفن وبكى، وقال: أواه!
ولذلك من حسن الإنسان وذكائه أن يذكر الموت.