وفي قصة المؤذن الأول دروس:
أولها: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فالقرشي الذي أعرض عن الرسالة في نار تلظى، والحبشي الذي آمن بالرسالة في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والإسلام لا يعترف بالفروق التي تجعل للناس تمايزاً غير تمايز الدين.
الثاني: أن هذا الدين لا يأتي لأهل المناصب ولا لأهل الشارات والجاه والأموال، ولكن هو يبقى مكانه ليأتي إليه من يحبه ويعشقه لذاته هو، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53] يقول أبو جهل: كيف يهتدي بلال وأنا سيد بني مخزوم وهو عبد حبشي؟
قال الله تعالى عنهم: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] ويقول الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53] فالدين لمن أتى حباً لذات الدين وحمله بشرف وعزة وإباء وتضحية.
الثالث: معرفتة عليه الصلاة والسلام للفروق الفردية بين أصحابه، واستعداد الصحابة، ومواهبهم الشخصية، فقد أعطى الأذان بلالاً، لأنه يصلح أن يكون مؤذناً، ولأنه المؤذن الأول الناجح، والراية لـ خالد في المعركة، والخلافة لـ أبي بكر، وعلم القافية والأدب لـ حسان، ومدرسة الفرائض وتوزيع المواريث لـ زيد بن ثابت، والقضاء وهيئة الاستشارة والعدل، لـ علي بن أبي طالب، (قد علم كل أناس مشربهم) وهذه لا يستطيع لها إلا الرسول عليه الصلاة والسلام وحده، لأنه قرأ نفوس أصحابه ودرس مواهبهم واستعداداتهم وهذا أمر يفوت على كثير من المربين والمعلمين والدعاة.
الرابع: أن مبائدنا تبدأ من بلال، وأنها تعلن صريحة من فوق المنابر، فلا عندنا أسرار، ولا شيء نتكتم عليه، ولا شيء نغطيه؛ فمبادئنا واضحة، تعرض صافيةً نقيةً، كصفاء الماء ونقاء الصحراء وكعرض الأرض والسماء، فمبادئنا كما قال بعض الكتبة: جمعية كبرى، أفرادها كل خير في الأرض، مبادئها تعلن من فوق المنابر والمنائر، فليس عندنا أسرار ولا كواليس نضع فيها أخبارنا، أو نغطي فيها أسرارنا، بل نحن واضحون تماماً، وهذا درس يعيه من يعيه.
الخامس: أن من أراد أن يهدي الناس لا بد أن يزرع في قلوبهم الحب، فإذا زرع الحب في قلوبهم، فليشرق بهم مع هذا الدين وليغرب بهم، فهم أحبابه السامعون له، ومن تصور أنه سوف يهدي الناس بالعصا، وسوف يردهم بالضرب والركل والشتم، فقد أخطأ سواء السبيل، وقد خسر منهجه، وقد ضل سعيه، وقد أفلت الناس من يديه، يقول تعالى مخاطباً نبيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فالذي يستطيع أن يزرع الحب في قلوب الناس وفي أسماعهم وأبصارهم فقد نجح نجاحاً باهراً في جذبهم إلى الهداية، وهذا هو السر الأعظم في نجاح دعوته عليه الصلاة والسلام، وهو أنه جعل الناس كأبنائه بل أحب إليه من أبنائه، فأحبوه حباً تقطعت قلوبهم لحبه، وعاشوا بحبه الليل والنهار.
عباد الله: صلوا على الإمام، وترحموا على المؤذن، أسأل الله أن يجمعنا بهم في دار الكرامة.
اللهم اعرض صلاتنا وسلامنا على محمد هذه الساعة المباركة، اللهم بلغه منا أشرف السلام وأزكى التحيات، وعلى آله وصحبه والتابعين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم إلى ما تحبه وترضاه.
اللهم اهدنا سبل السلام.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم اهد قلوبهم إلى الحق، اللهم فقههم في الكتاب والسنة، اللهم حبب إليهم العلماء والدعاة والصالحين، وبغض إليهم المردة والمرتدين والمنافقين والزنادقة.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك ولرفع رايتك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.