يذهب عمر بجمله ومولاه ليفتح بيت المقدس، فلا موكب ولا جنود ولا حراسة ولا حشم ولا دنيا، يذهب بالدين، لكنه يذهب وهو يحمل الدنيا في يديه، كما قال حافظ إبراهيم:
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
يأخذها في ساعة ويعطيها في ساعة.
وأتى عمر ودخل بيت المقدس بثوبه الممزق المرقع، وهو في ثوبه وفي هيكله وفي جسمه يصف العدل، ويمثل الرحمة والصرامة، ويجتمع المؤمنون في فتح بيت المقدس، الصحابة وكبار الصحابة، وأهل العهد المكي، وبقية العشر، وأهل بدر وأهل بيعة العقبة، وكلهم احترق من داخله بموت الإمام.
وتحين صلاة الظهر مرة ثانية، فيقول عمر: أسألك بالله يا بلال
أن تؤذن لنا، قال: اعفني يا أمير المؤمنين! قال: أسألك بالله أن تذكرنا الأيام الأولى في حياتنا، فلكل إنسان ذكريات، وذكريات الصحابة محمد عليه الصلاة والسلام، وحبهم وتاريخهم وتعاليمهم وفجرهم وليلهم ونهارهم محمد عليه الصلاة والسلام، يريد عمر أن يطوي أربعين أو ثلاثين سنة في جلسة واحدة، قال الصحابة: يا بلال اتق الله سألك أمير المؤمنين، فقام بلال يتحامل على جسمه، وقد أصبح شيخاً كبيراً، وارتفع صوته، فإذا بصوت عمر يسابقه بالبكاء أسرع من صوت بلال بالأذان، وتَنْهَدُّ أكتاف عمر، وقد أصبح كالطفل الرضيع يبكي، وبكى كبار الصحابة، وبكى الجيش الفاتح الذي مع عمر، الجيش والواحد منهم كالأسد الضرغام، لا ينهزم ولا يغلب، ولكن غلبوا في ساحة الحب، أصبحوا صرعى من البكاء، وتردد المسجد الأقصى بالبكاء، لماذا؟
لأن الأذان ذكرهم تاريخاً وذكريات تنهال على الإنسان من كل حدب وصوب.
فلا إله إلا الله ما أعظم الذكريات! ولا إله إلا الله ما أجل الحياة! وما أشرف الأوقات مع أولئك الذين رفعوا دين الله في الأرض والبحار والفلوات!