ولقد قيض الله لهذا الرجل داعيةً عملاقاً؛ هذا الداعية وإن كنت لا أعرفه، لكن يعرفه كثير من العلماء وطلبة العلم في هذه المنطقة وغيرها، اسمه: محمد بن حمود اليمني؛ رجلٌ ما ذَكَرَتْهُ الكتب لكن ذَكَرَتْهُ القلوب، وما عَرَفَتْهُ الصحف لكن عَرَفَتْهُ الأرواح، وما سُجِّل بالجرائد لكن سَجَّله الله في الخالدين.
حُدِّثْنا بتواترٍ عنه أنه كان يأخذ القلوب فيسافر بها إلى الله، فأقف مع هذا الرجل، وأقف في قصة حدثنا بها بعض الصالحين؛ قصة بين هذه القصة، تتحدث عن هذا الداعية، يقول الرجل الصالح: "رأيت في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيت كأنني في سوق وقد اجتمع الناس في هذا السوق، فلما ارتفعت الشمس، وأخذ الناس يتبايعون ويتشاورون في السوق، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- يرتقي إلى منبر السوق، وإلى مكانٍ عالٍ في السوق فيعظ الناس، ويبكي ويُبكي الناس، قال: حتى رأيت بعض الناس سقطوا مغمىً عليهم من التأثر، فرشوا بالماء وحملوا من السوق -هذه رؤيا منام- قال: وفي الصباح نزلت إلى سوق البلدة فوقفت مع الناس، فلما احتمت الشمس وارتفع النهار واجتمع الناس، وإذا بهذا الداعية، يصعد منبراً مرتفعاً في السوق يكبر ويهلل، وتتساقط دموعه قبل الكلمات إي والله! قال: فرأيت الناس يتساقطون من التأثر ويرشون بالماء، ويحملون إلى الظل، فكان هذا تأويل رؤياي من قبل".
نعود إلى قصة هذا الرجل الأول، قال: وفي أثناء ما كنت في نوبتي آخذاً بندقيتي بجانب مسجدٍ في هذه البلدة، والناس يصلون وأنا لا أعرف الصلاة، وإذ بهذا الداعية يرتفع صوته بعد صلاة العصر؛ منذراً، ومحذراً، ومذكراً، وهو يتلو قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ثم أخذ يشرح الموقف والعرض الأكبر، ويصف الجنة والنار.
وقد سلم هذا الرجل قلبه لهذا الداعية، ووصل صوته إلى قلبه قبل أن يصل إلى أذنيه؛ لأن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب.
قال: فاستأسر قلبي بين يديه، {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4].
قال: وانتقلت من البلدة بروحي فما أدري أين أنا، وأصابني من الإعياء والبكاء والإغماء ما الله به عليم، حتى ما استطعت أن أتحامل على رجلي فجلست على الأرض.
قال: وكان صوته ينفذ إلى القلب مباشرة؛ وهو يتحدث عن الحشر والنشر ومواقف الحشر وكأن ربي بارزٌ على عرشه يوم العرض الأكبر.
قال: واستمريت في البكاء إلى قبيل المغرب حتى سلمت نوبتي لزميلي، وذهل الناس مني واجتمعوا عليَّ مالك مالك؟ قلت: لا شيء، أتوب إلى الله أستغفر الله أعود إلى الله، اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
وهكذا يفعل الداعية المخلص بالقلوب يفتح مدناً من القلوب بالكلمات لا تفتحها الجيوش المجيشه، ولا الجنود المجندة.
وقام هذا الرجل وذهب فاغتسل من الجنابة التي مكثت عليه أشهراً طويلة، وغير ملابسه فقد غير قلبه، وقام يستغفر ويتوب ودموعه تتساقط مع قطر ماء الوضوء.
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
قال: وأول صلاةٍ صليتها صلاة المغرب، فلما صليت وإذا أنا بالداعية، فسلمت عليه، فهش وبش في وجهي، وكأنه اشتراني وأعتقني -والله- وعانقه في نفس الوقت؛ وهذا هو السحر الحلال، وهو: تبسم أهل الفضل والنبل والعلم؛ ليشتروا القلوب ويبيعوها بجنة عرضها السماوات والأرض.
يقول الله لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقول له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
قال: فذهب بي هذا الداعية إلى بيت يجاور المسجد، وسألني: لماذا أبكي؟ فقصصت عليه حياتي، فشاركني في البكاء، وقلت: الآن أولد مولداً جديداً، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].