الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، صلى الله عليه وسلم منه نتعلم الأخلاق، ونتعلم الزهد، ومنه نتعلم البذل والتضحية، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه.
ومع ابن الزبير في قافلة الحياة، مع ذلك العابد الذي زكاه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولكل بداية نهاية: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
وإذا لم يكن من الموت بدُّ فمن العجز أن تموت جبانا!
إذا كان الموت قضية مسلمة، وسنة من سنن الله في الحياة، فلماذا يموت المسلم على الفراش وهناك دعاء التضحية، ومواقف استبسال، وطلب الشهادة؟ فلما رأى الله من قلب ابن الزبير أنه يتوق إلى الشهادة، وكان رضي الله عنه يطالب بالحق للمستضعفين من اليتامى والأرامل يرفض الظلم والجور يرفض أن تؤخذ الحقوق جهاراً نهاراً من الضعفاء، فكان من جند المستضعفين بسيفه وقلبه وإيمانه رضي الله عنه وأرضاه، وقف في الحرم وأعلن الخلافة من هناك، وأخذ الخلافة ست سنوات، لكن بني أمية في الشام لم يعجبهم ذلك، فهم يريدون طريقاً وهو يريد طريقاً آخر، وعند الله يجتمع الخصوم، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] وزحف الحجاج إلى ابن الزبير رضي الله عنه وأرضاه وهو في الحرم، وقد لاذ وعاد ببيت الله، وهو ينادي برب الحي وأصحابه، وينادي برفع الظلم والجور عن المظلومين، ولم يهم الحجاج أن تستباح مكة والمدينة في غداة واحدة، ويصل والحجاج إلى مكة، فيطوق الحرم، ويرسل قذائفه النارية إلى بيت الله العتيق، وتلج القلوب، وتصيح الألسنة، لا حكم إلا لله، ولا بقاء إلا للا إله إلا الله، ولكن ذلك الجائر يرفض إلا حكم المعركة والسيف.
وابن الزبير يستدعى من أقربائه ليسلم فيعلن القوة والصراحة والاستبسال رضي الله عنه وأرضاه، وفي آخر لحظاته كان يطارد وحده خمسمائة من الرجال بسيفه، فيهربون أمامه كما تهرب الماعز، ويعود إلى ذات النطاقين، إلى الأم الحنون والمدرسة الأولى إلى الجامعة القوية إلى مصدر الثروة والنماء والاستبسال إلى العزيزة بإيمانها والقوية بتضحيتها ويعرض عليها الأمر، ويأخذ منها الشورى، ويقول: أخاف أني إذا قتلت أن يمزق جسمي، فقالت: وماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ لكن اثبت واحتسب أجرك على الله، فالسلام عليك من شهيد، وأستودعك الله من فقيد، ثم تقول له وهي تبكي: والله لقد كنت مطيعاً لربك، باراً بأبويك، مقيماً للصلاة في الليل، صائماً في الهواجر، ولقاؤنا معك عند الله تبارك وتعالى، وخرج رضي الله عنه وأرضاه، متكفناً في أكفانه البيضاء بياض إسلامه وقلبه ومنهجه في الحياة، وتحنط وتطيب ثم وقف عند مقام إبراهيم، ليودع الحياة وأهلها وطاغوتها، ووقف يصلي، فأتته قذيفة وهو في مكانه فما اهتز وما التوى ولا تغير، فوقعت في رأسه، فأوقعته في الأرض شهيداً، وحمل إلى الحجاج وهو مقتول، فقال: اصلبوه في الحجون، فصلبوه في الشمس وكأنه يخطب الناس أو كأنه قائم في صلاته لربه مناجياً الحي القيوم، شدوه بالحبال على الخشب، ومر أجيال وأطفال الناس ومرّ التابعون يبكون ويودعونه، ومر ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه فقال: السلام عليك، والله، ما علمت إلا أنك مقيماً لكتاب الله، مهتدياً بهدي رسول الله، صائماً للهواجر، قائماً الليل، فالسلام عليك من فارس لم يترجل، ثم مرت أمه وهي عمياء يقودونها، فقالت: إذا وازيته فأقيموني، ووقفت وهي تبكي وتقول: سلام عليك يابن حواري رسول الله! والله لقد كنت باراً في شبابك، مطيعاً في كدرك، عابداً في شيخوختك، فسلام الله عليك حتى ألقاك.
سلام الله عليه يوم يلقى الله تبارك وتعالى، وسلام الله وصلاته على من علمه هذا المنهج، وعلى من أحيا قلبه بالرسالة الرسالة التي تستطيع دائماً وأبداً أن تستمر لتحيي ملايين القلوب، لمن أراد أن يحيا بنور الله، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122] أفمن كان ميتاً في الجاهلية، فأحيينا قلبه بنور الإيمان، فانتفض عليه حياً مؤمناً، وجعلنا له نوراً من هذا المنهج يمشي به في الناس ليوزعه بين الناس، ويهديه لهم، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، كمن مثله في ظلمات شهواته ونزواته ومرابعه، يبغث بطنه، ويعبد ثوبه ووظيفته، ويعبد سيارته وحذاءه، ولكنه لا يعبد الله.
فهذا ابن الزبير يعلمنا كيف نعبد الله الحي القيوم، وعلى مثل ذلك المنهج نسير إلى الله، وبمثل حبهم نحب الله وقد وقف يودع الناس:
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
كأنك واقف فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاءً كمدك إليهم بالهبات
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أمرنا الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله بها عليه عشراً} اللهم صلِّ على نبيك محمد، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، وارفع رايتهم، وارفع رءوسهم، وانصرهم على عدوهم، واشرح صدورهم بنورك الذي أنزلته على نبيك، اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر عبادك الموحدين في أفغانستان وفلسطين وفي كل زمان وسقع من بلاد المسلمين، اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.