أولها: درس التوكل على الله، وتفويض الأمر له، وصدق اللجأ إليه، فلا كافي إلا الله، يقول سبحانه على لسان أحد أوليائه: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:44 - 45].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَىَ لرسوله: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] وكل من هو دون الله فهو تحته، ودونه، وأضعف منه، فلا مقارنة.
الناس اليوم يحملون صدق التوكل والانتصار بالله في أذهانهم لا في حياتهم، إنهم يكونون أجبن ما يكون عندما تهدد لا إله إلا الله، إن قضية الوظائف، والمناصب والموائد، والجاهات والشارات استعبدت البشر، إنها تستعبد الحر الشجاع، فتجعله ذليلاً جباناً لا يقول كلمة الحق: {تعس عبد الدينار تعس عبد الخميلة تعس عبد الخميصة} إن محمداً عليه الصلاة والسلام، أراد أن يبني جيلاً قوياً شجاعاً، يقدم الواحد منهم رأسه لمبدئه، وروحه لمنهجه.
ولكن: طال الأمد، وقست القلوب، وانطمس المنهج، وأصبحت الأمة تعيش خواءً عقدياً، أخوف ما تكون من البشر، انظر إليهم، والله إنهم يخافون من البشر أكثر من رب البشر!! فكم يخافون؟ وكم يجبنون؟ وكم تصيب أحدهم الزلزلة والرعدة من تهديد بسيط، يتعرض لوظيفته أو لمنصبه أو لدخله ورزقه، ولا يرزق ولا يخلق إلا الله!! {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3].
إن قصة الهجرة يتجلى فيها التوكل كأحسن ما يتجلى في أي صورة، يدخل الغار، ويتكرر لنا حديث الغار، ونعيد دائماً حديث الغار، لأن أول التاريخ بدأ من الغار، والنور انفجر من الغار.
فمن يمنعه عليه الصلاة والسلام؛ أين موكبه؟ أين أقواس النصر التي تحف بالناس؟ أين الجنود المسلحة التي تحمي جماجم الناس وأرواحهم وهم أقل خطراً وأقل شأناً منه، لا جنود معه ولا حراسة، لا سلاح، ولا مخابرات، ولا استطلاع!
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمانُ
فيقول أبو بكر: {يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا، فيتبسم عليه الصلاة والسلام -والتبسم في وجه الموت أمرٌ لا يجيده إلا العظماء، حتى يقول المتنبي يمدح عظيماً لا يستحق أن يكون جندياً في كتيبة محمد عليه الصلاة والسلام:
وقفت وما في الموت شك لواقفٍ كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ووجهك وضاحٌ وثغرك باسمُ
يتبسم عليه الصلاة والسلام- ويقول: ما ظنك يا أبا بكر! باثنين الله ثالثهما} هل يغلب الثلاثة، أم تكون الدائرة على غير الثلاثة؟ إذا كان الله الثالث، فمن هو المغلوب؟ من هو خاسر الجولة؟ من هو المنهزم في آخر المعركة؟ ويقول: لا تحزن إن الله معنا، بعلمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهي معية الحفظ والتأييد والتسديد لأوليائه، المعية التي صاحبت إبراهيم عليه السلام، وهو يهوي بين السماء والأرض، في قذيفة المنجنيق إلى النار، فيقول له جبريل: ألك إليَّ حاجة؟! قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] فصارت النار برداً وسلاماً.
والمعية التي صاحبت موسى راعي الغنم، الذي يحمل عصاه، ولا يجيد أن ينطق اللغة، ويدخل إيوان الظالم السفاك المجرم فرعون، وحرس فرعون أكثر من ثلاثين ألفاً، الدماء تسيل في البلاط الملكي الظالم، موسى يلتفت ويقول: يا رب! إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى، فيعطيه الله درساً في التوحيد والتوكل: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] نواصي العباد بيديه، ورءوس الطغاة في قبضته، ومقاليد الحكم بيمينه، لا يتصرف متصرف إلا بقدرته.
ثم يأتي سراقة ويطارد محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقرأ القرآن ولا يلتفت؛ لأن الله معه، يدعو على سراقة، فيصبح سراقة مهدداً بالموت، فيقول: يا محمد! اكتب لي أماناً على حياتي.
أنت الآن محمي وأنا مهدد، بالله لا تقتلني، فقد فر من الموت وفي الموت وقع، فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن يتبسم: {يا سراقة! كيف بك إذا سورت بسواري كسرى؟} أين كسرى؟ إنه امبراطور فارس، ودكتاتوري الشمال، المجرم السفاك.
فيضحك سراقة كأنه ضربٌ من الخيال، أهذا يستولي على إمبراطوريات الدنيا؟! أهذا يلغي مملكة العالم، وهو لا يستطيع أن ينجو بنفسه؟ وبالفعل تم ذلك، ودكدك الظلم، وفتح الشمال، ورفرفت لا إله إلا الله على الإيوان:
وما أتت بقعةٌ إلا سمعت بها الله أكبر تدوي في نواحيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها