{قالت الرابعة: زوجي إن أكل لف -يعني: أكله لف- وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث} انظر الفصاحة! تقول: زوجي إن أكل لف: تقول: يأكل الغداء ويتركني، ولا أكاد أنزل الصحن إلا وقد انتهى وغسل وقال: {الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة} اللقمة الواحدة بخمس والأجر على الله، وإذا اشتغل على السفرة اشتغل بإتقان وحكمة عملاً بحديث: {إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه} يشرب البارد قبل الحار، ولا يعجزه شيء.
وقد كان العرب يتسابون بكثرة الأكل، ويذكر أن من أكثر الناس أكلاً سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي يقولون: حتى ترهل بطنه فما كان يخطب إلا جالساً على المنبر، ويقولون: كان إذا طبخ دجاجاً لا ينتظرها حتى تحول من القدر، كان يأخذ كمه ويدخل يده وينتزع الدجاجة برجلها، كأنه يلعب (كراتيه) ولكن كان منهم من يتقي الله، وكان منهم من يستخدم أكله وطعامه في معصية الله، عمرو بن معدي كرب الزبيدي فارس العرب يقولون: أكل عنزاً وفرق ذرة ذكره ابن قتيبة وابن عبد البر، وهو من سادات مذحج لكن كان إذا ضرب الفارس يقسمه بالسيف نصفين، وكان لا يهرب من المعارك، لا يعرف إلا (أماماً سر) أما (إلى الخلف در) فلا يعرفها في المعركة؛ فيسمونه أقدم العرب وأشجعهم، حتى يقول أبو تمام:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
فهذا هو الإقدام وليس شاهدنا، ولكن المقصود أن كثرة الأكل تذم، وإذا كان يعين صاحبه على النوم والكسل والخمول وعلى المعصية فهو أشد ذماً، فإن بعضهم يأخذ نعم الله ولا يشكره، ولكن الأكل إذا كان في طاعة الواحد الأحد فهنيئاً مريئاً، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر} فكل مما أحل الله، وكل الطيبات من اللحم، والعسل، ولكن كن رجلاً صالحاً تعبد الله بهذا الطعام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172].
كل من الطيبات وأكثر، ولكن لا تداوم على التبجح والشبع الكثير فإنه يكثر من النوم، ويكثر كذلك من الكسل، والخمول وهو يعرض صاحبه للأمراض، ولا تمت يبساً وجوعاً مثل المسيحيين والرهبان فهذا ليس من الإسلام، وخير الأمور أوسطها، ولا تقتصر كذلك على ما لا يكفي وعندك الكثير لكن قل: رب أوزعني شكر هذه النعمة.
قالت: {زوجي إن أكل لف} هي تشكو كأن مالهم قليل وهي مسكينة جائعة منذ عرفته لا تشبع معه، يأكل ما بين يديها وما خلفها، {وإن شرب اشتف} أي: لا يجرع الماء، لا يشرب مثل الناس بل يدغفه دغفاً، وهذا مذموم، ومن السنة أن لا يشرب الإنسان دغفة لأنه يورث مرضاً في المرئ، وبعض الناس يشرب مثل شرب الثور، تسمع له جرجرة.
قالت: وإن اضطجع التف تقول: ينام وحده ويلف الكساء حتى لا يكشف إلا في الصباح، يلف البطانية عليه ثلاث مرات، ثم ينام، وهذا مذموم عند النساء كما تعرفون، قالت: إذا اضطجع التف، أي أنه: يلتف بالبطانية أو بالكوت أو بالجلباب، ثم إذا أراد أن يقوم رد في لفافته حتى يستيقظ.
ولا يولج الكف ليعلم البث تقول: أمرض عنده ولا يضع يده عليَّ من الحر، لا يعرف التمريض وليس فيه رحمة.
بعض الناس فيه عطف وحنان إذا مرض الطفل وضع يده على جبهته، وهذا هديه عليه الصلاة والسلام، كان إذا أتى إلى أصحابه يضع كفه الشريفة على صدر الصحابي فيسأل عن حاله، قال سعد بن أبي وقاص المجاهد العظيم خال محمد عليه الصلاة والسلام، مدكدك دولة الظلم والعدوان، قائد المسلمين في القادسية، يقول: {زارني صلى الله عليه وسلم وأنا مريض، فوضع يده على صدري، ويقول: بعد ثلاثين سنة: فوالله لكأن يده الآن على صدري أبرد من الثلج} وكان صلى الله عليه وسلم يأتي إلى الأعراب وهم أعراب ما بينهم معرفة أصيلة كالصحابة، ويضع يده عليهم، ويقول: {لا بأس، طهور إن شاء الله} دخل على أعرابي شيخ كبير والحمى ترزفه رزفاً وتهزه هزاً، يقول المتنبي في الحمى:
وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
فدخل عليه الصلاة والسلام على الأعرابي وهو يتصبب عرقاً تحت البطانية فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده عليه قال: {لا بأس طهورٌ إن شاء الله} وهذا الأعرابي لا يعرف ذلك قال: {لا ليست بطهور بل حمى تفور، على شيخ كبير تزيره القبور} -يقول: بعد قليل تعلم الطهور هذا يؤديه إلى المقبرة هذه الحمى- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {نعم إذاً} فمات منها، وفي الحديث الصحيح: {إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط} فتقول: هذا لا يعرف المرض ولا يسأل عن المريض، وليس بصاحب رحمة ولا عطف ولا حنان، وهذا خلاف للهدي المعروف في الإسلام قالت: ولا يولج الكف ليعلم البث أي: ليعلم الحزن حتى أنه لا يشارك الهموم، ولذلك يقول الشاعر العربي:
ولا بد من شكوى إلى ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
فالشكوى مطلوبة، ولذلك فعلى المسلم أن يقوم مع المصاب في مصابه، ومع المريض في مرضه، ومع صاحب الفاقة في فاقته، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: {إن الله يقول يوم القيامة: يا بن آدم مرضت ولم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده، أما إنك لو عدته لوجدت ذلك عندي} قال الشاعر:
مرض الحبيب فزرته فمرضت من خوفي عليه
اسمع البيت ما أحسنه:
مرض الحبيب فزرته فمرضت من خوفي عليه
وأتى الحبيب يزورني فشفيت من نظري إليه
هذا جيد وهذان بيتان جيدان إن شاء الله.