مرةً ثانية الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل مع الناس في الخندق، وأصابه من الجوع ما الله به عليم، مرة يفكههم صلى الله عليه وسلم ويداعبهم؛ والدعابة للمرهق بلسم شافٍ بإذن الله، والدعابة إذا كانت خفيفة لطيفة شريفة أحيت بعض العروق ونبضت به الدماء.
أتى صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت يعمل ولكنه رفض، عمل حتى كلَّ وملَّ فألقى مسحاته ورقد، فقال صلى الله عليه وسلم: {قم يا نومان، فاستيقظ الرجل فداعبه صلى الله عليه وسلم}.
وكان من عادة الصحابة حينما اشتغلوا في الخندق أن يجعلوا كل رجلين معاً؛ فرجلٌ يحفر ويملأ الزنبيل بالمسحاه، ويعطيه الآخر ليوصله إلى مكان معلوم، فجعلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً اسمه عمير؛ وكان عمير رجلاً ضعيفاً لا يستطيع أن يأخذ الأحمال، إنما جعلوه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذ صلى الله عليه وسلم يسميه يا ظهير؛ يعني: كان اسمه عمير فيناديه بظهير لأن فيه قوة.
في هذه الأثناء بلغ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الجوع الشيء العظيم، فذهب جابر إلى بيته، ورأى زوجته وقال: [[عندكم طعام؟ قالت: عندنا هذه الداجن -عنز صغيرة لا تساوي عشرين ريالاً، يعني: ضعيفة- قال: وما عندكم شيء؟ قال: عندنا مد من شعير]] تعرفون أن المد من الشعير يكفي اثنين أو ثلاثة بالأكثر، فرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: [[يا رسول الله! تعال أنت وثلاثة معك]] يعني: همس حتى لا يسمع رابع فيدخل في المسألة -فيما لا يعنيه- فوقف جابر، فقال صلى الله عليه وسلم: {يا أهل الخندق! -وأهل الخندق ألف رجل- إن جابر بن عبد الله صنع لكم طعاماً فحيهلا بكم} ووقف جابر حتى كاد أن يسقط، فخرج أمام الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: الله ورسوله أعلم.
أتى وهو وجل خائف، فقال لامرأته: [[دعوت الرسول صلى الله عليه وسلم وثلاثة معه، فدعا أهل الخندق كلهم]] قالت: عليك السكينة والوقار، الله ورسوله أعلم.
وانظروا كيف يكفي ألف رجل عنزة صغيرة ومد شعير.
فأتى صلى الله عليه وسلم، وقال لـ جابر: {قل لأهلك -يعني: امرأتك- أن تترك الطعام حتى آتى} فأتى صلى الله عليه وسلم فتفل على الطعام؛ ويا ألله ما أنبله من تفال! وما أجمله! وما ألذه! وما أعذبه! حتى إن فضلاته صلى الله عليه وسلم يستشفى بها؛ إنها البركة، حتى تفاله، ووضوءه، وظفره، وشعره؛ كل هذه بإذن الله من المكرمات التي لو حصلها الإنسان لطار فرحاً.
يقول عبيدة السلماني كما في صحيح البخاري؛ وعبيدة السلماني هذا من أحد كبار التابعين العظماء، الزهاد العباد: [[والله الذي لا إله إلا هو، لوددت أن عندي شعرة من شعر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدنيا وما فيها]].
فدخل صلى الله عليه وسلم فلما برك على الطعام ودعا، قال: {هلم عشرة عشرة} فلذلك من السنة إذا كان عندك ضيوف عددهم أكثر من عشرة إما عشرين أو ثلاثين؛ أن تجعلهم عشرة عشرة، لا تذهب وتجعل ثلاثين على المائدة، بل اجعل عشرة في كل مائدة.
فأدخلهم صلى الله عليه وسلم عشرة عشرة، فأكلوا حتى أكل الجيش كله، فلما انتهوا من ذلك الطعام، قالت امرأة جابر: [[والله الذي لا إله إلا هو، ما نقص منه قليل ولا كثير]] ويقول جابر: [[إنه بحاله حينما وضعناه]] قال صلى الله عليه وسلم: {أعطوا جيرانكم منه} فلو لم يأت الرسول صلى الله عليه وسلم ما أعطوا الجيران، بل كان الثلاثة سوف يأكلونه، لكن الآن شبع الجيش والجيران، وهذا من بركاته صلى الله عليه وسلم.