نماذج من أحوال السلف في حفظ الوقت

دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه المسجد، فوجد رجلاً حزيناً من الصحابة جالساً في المسجد، فقال: مالك؟ قال: فاتتني صلاة الليل البارحة.

أي: قيام الليل، أما نحن فالكثير منا تفوته صلاة الفجر ولكن قلبه بارد لا يجد حزناً فيه ولا قلقاً ولا هماً ولا خوفاً، كما قال المتنبي:

من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام

أي: من يصبح بالهوان بمنزلة يسهل أن تهون عليه الأمور، كالميت إذا أتيت تنحره وتقطعه بالسكين لا يتأثر، ما لجرح بميت إيلام.

قال هذا الرجل: نمت عن ورد البارحة من قيام الليل فحزنت، قال عمر: سبحان الله! قم فصل، أما سمعت الله يقول: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] يعني: جعل الليل خلفة عن النهار، والنهار خلفة عن الليل، فمن فاته ورده في النهار، وقراءة القرآن، والذكر في النهار، فليعوضه في الليل، ومن فاته في الليل فليعوضه بالنهار، فهي منة من الله عزوجل.

هذا أحد الصالحين اسمه: الجنيد بن محمد كان يسبح في اليوم ثلاثين ألف تسبيحه، ذكر هذا أهل العلم في ترجمته، فلما حضرته الوفاة أخذ يقرأ القرآن وهو في سكرات الموت، فقال له أبناؤه: تقرأ القرآن وأنت مشغول بالموت! قال: وهل هناك في الدنيا أحوج مني إلى العمل الصالح؟ فقد أصبح في ورطة الآن.

فيا أخوتي في الله! إن الدقائق الغالية في حياة المسلم لا تُقدَّر بثمن، والساعة الواحدة يأخذها فلان فيستقل بها إلى رضوان الله الواحد الأحد من قرآن، أو تسبيح، أو مطالعة، أو ذكر، أو دعوة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، ويأخذها هذا فيصل بها إلى غضب الله ولعنته وسخطه، من ترك صلاة، أو زنا، أو فعل فاحشة، أو جريمة، أو غيبة، أو نميمة، أو معصية تغضب المولى تبارك وتعالى.

يقول النووي -والعهدة على النووي - في التبيان في آداب حملة القرآن؛ وهي رسالة طيبة وجيزة، يقول فيها: كان كرز بن وبرة يختم القرآن في الليل أربع مرات، وفي النهار أربع مرات.

لكن ليس هذا هو السنة، فلا يفقه القرآن في أقل من ثلاثة أيام، لكن أذكره من باب الجد والمثابرة، وكان أصحاب كرز بن وبرة يقولون له: اجلس معنا نتحدث معك، قال: احبسوا لي الشمس وأتحدث معكم، معنى ذلك: أن الشمس تذهب في أعمارنا وتقرضها، فمن يضمن لي يوماً كهذا اليوم.

قال الحسن البصري: [[والذي نفسي بيده! ما أصبح صباح إلا نادى اليوم في صباحه: يا بن آدم! اغتنمني فوالله إني لا أعود لك إلى يوم القيامة]] قال الجاحظ في كتابه الحيوان؛ وأحسن ما أنشد العرب في حفظ الوقت أبيات الصلتان السعدي، يقول فيها:

أشاب الصغير وأفنى الكبير كرُّ الغداة ومر العشي

إذا ليلة حرمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتي

نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي

تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي

هذا من أحسن ما قيل! وأنا أذكر -وهذا يجوز بالإجماع- بعض الأبيات النبطية لأحد الشعراء، يذكرها في العمر وفي الشيب، ابتدأها بحمد الله، يقول:

لك الحمد يا من صور الشمس والقمر وسوى السما سبعاً وقوى عقودها

وصلى على المختار من صفوة البشر مع أنصار دينه يوم كانوا جنودها

أبى أوصيك يا مسلم دليل من افتكر ودرب السعادة عزكم من يرودها؟

إذا ما ذكرت القبر يا عبرة العبر مع الحفرة الظلما دهتنا بدودها

لحى الله دنيا تتعب القلب والبصر إذا قلت طابت تخدش العين عودها

صحبنا بها الإخوان في الحضر والسفر فلما تصافينا بكتنا عهودها

بنينا بها بيتاً من الطين والحجر فدكت مبانيها وهزت سنودها

تعبنا بها والله من كثرة الخطر كرهنا مغانيها وعفنا بنودها

ويصدِّق هذا الكلام قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الأرض -أي: أنعم أهل الأرض من الفجرة الذي ما عاش إلا في الحرير والقصور وفي الورود الرائجة، والحدائق الناعمة، وفي الحلي والحلل، والدنيا والزلل وفي كل شيء- فيغمسه الله في النار غمسة، ثم يقول الله: هل رأيت نعيماً قط؟ قال: لا -والله- يا رب! ما مر بي نعيمٌ قط، فذهبت الفلل، والقصور، وذهب النعيم، وبقيت المعصية تلاحقه حتى أدخلته النار- ويؤتى بأتعس أهل الدنيا -هذا الرجل الطائع الذي ينام في الخيمة، ولا يجد إلا كسرة الخبز، ولا يجد إلا جرعة الماء، دائماً جائع، مطرود بالأبواب، كسيف البال، مغير الخلقة، عليه ثياب بالية، عليه وضر الضر والفاقة والفقر- فيغمسه الله غمسة في الجنة، ثم يقول الله له: هل مر بك بؤس قط؟ قال: لا -والله- يا رب! ما مر بي بؤس قط} وهذه هي الحياة.

ولذلك سل من تنعم، وهو في الحياة الآن، كم مر في النعيم، هل تتذكر النعيم؟ يقول: لا.

الذي تغدى اليوم لا يذكر الغداء لأنه جاع الآن، والذي جاع في الأمس لا يذكر الجوع؛ لأنه شبع اليوم، ولا تبقى إلا طاعة الله الواحد الأحد.

ولذلك تواصى بها الصالحون قديماً وحديثاً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015