وفي الأثر أن الله إذا جمع الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، حفاة عراة غرلاً بهماً، قد وقفوا في صعيد واحد، وتجردوا للحساب، وتجلى الله تبارك وتعالى على عرشه يحمله ثمانية، فنادى بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد فيقول عز من قائل: {أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ ثم يقول: لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ فيجيب نفسه بنفسه تبارك وتعالى ويقول: لله الواحد القهار، ثم يقول: إني حرمت على نفسي الظلم وجعلته بينكم محرماً، فوعزتي وجلالي لا تنصرفون اليوم ولأحد عند أحد مظلمة، فينصب الموازين، وترفع الصحف، ويحضر الملائكة، ويأتي الظلمة يعض كل ظالم على يده حتى يأكلها؛ فيقتص الله للمظلوم ممن ظلمه، بحكمه العدل كما قد علمه حتى يؤتى بالبهائم فتحشر كالجبال، ما بين الإبل والبقر والغنم والعجماوات والطيور، فيتجلى الله لها فيقتص لبعضها من بعض، حتى يقتص للشاة الجماء من ذات القرن، فإذا انتهى من المحكمة بينها تبارك وتعالى قال لها: كوني تراباً، فتكون تراباً، فيقول الكافر عندها: يا ليتني كنت ترابا!}.
فالله الله! يا عباد الله! فما جف القطر، وما نزعت البركة، وما تباغضت القلوب، وما فسد الأولاد؛ إلا من الظلم.
إن الظلم ظلمات في القلب، وفي القبر والحياة والآخرة.
إن الظلم لعنة ومسخطة.
فالله الله أوصي نفسي وإياكم باتقاء الظلم، في المعاملات والأقوال والأخلاق، فإنكم سوف توقفون عند ربكم في العرض الأكبر: {ولَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
والظلم يدخل في البيع والشراء، ويجمع الله المتماكسين الغششة ليوم لا ريب فيه؛ فينصف الناس منهم، والظلم يدخل فيه ظلم الولد لوالديه وهو العقوق، وقد حرم الله العقوق، ولا يدخل الجنة قاطع رحم، وقال الله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
والظلم يدخل على القضاة والمسئولين؛ فيأتي كل قاض ومسئول -كما صح الحديث في ذلك- مغلولة يده اليمنى خلف ظهره، فإن عدل أطلق الله يده، ونور وجهه، وبشره بالنعيم المقيم، وإن ظلم وفجر كبه الله على وجهه مغلولاً في النار، فنعوذ بالله من الظلم.
سجن هارون الرشيد أبا العتاهية فأرسل له من السجن رسالة يقول فيها:
أما والله إن الظلم شينٌ وما زال المشين هو الظلوم
إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
فبكى هارون الرشيد حتى فحص برجله، وأمر باسترضائه وأطلقه، ولذلك يقول:
أيا رب إن الناس لا ينصفونني فكيف ولو أنصفتهم ظلموني
سأمنع قلبي أن يحن إليهمُ وأحجب عنهم ناظري وعيوني
ولكن الأسلم لمن ظلم أن يستغفر الله، فما أصابه الظلم إلا بذنوبه، وأن يرجو الثواب والجزاء والأجر عند الله، وأن يتصدق بعرضه على الناس، قال عليه الصلاة والسلام للصحابة: {من منكم مثل أبي ضمضم؟ قالوا: وما فعل يا رسول الله؟ قال: قام البارحة فناجى الله وبكى وقال: اللهم إنه ليس عندي مال أتصدق به، ولا دنيا أنفق منها، اللهم إني قد تصدقت بعرضي على المسلمين، اللهم من سبني أو شتمني أو ظلمني، فاغفر له وارحمه، واجعلها لي أجراً ومثوبة}.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.