وقفات مع سورة الفيل

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.

الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.

الحمد لله الذي كسَّر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ظهور الأكاسرة، وقصّر بمبعثه آمال القياصرة، الذين طغوا وبغوا حتى أرداهم ظلمهم في الحافرة.

والصلاة والسلام على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المبعوث بالخُلق الجميل، وبالدين الجليل، الذي كان مولده يوم رد الله أصحاب الفيل، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أمَّا بَعْد:

نقف اليوم وقفةً مع سورة عظيمة، وهذه السورة تروي قصة تاريخية وحدثاً عظيماً يمتن الله بها على أهل الجزيرة العربية، وكأن لسان الحال يقول:" يا أهل الجزيرة! أما رددنا عنكم المعتدي وحميناكم من الظالم؟

يا أهل الجزيرة! أما منعناكم من المستعمر الأجنبي فكيف تقابلون نعم الله، ودينه ورسالتة؟!

وملخص القصة: أن أبرهة الأشرم -الملك الحبشي الذي تولى الملك في اليمن، وكانت عاصمته صنعاء - غضب من وجود بيت الله الحرام، فبنى في صنعاء كعبة عظيمة هائلة طويلة شاهقة، زخرفها وبناها وليته اكتفى -هذا العميل الضال المجرم- بهذا الفعل فقط، بل دعا الناس لحج هذا البيت الذي بناه، وصرف وجوه الناس إلى كعبته التي أسست على الظلم والفجور وعلى المكر والعناد، وكانت تسمى: القُلَّيس، إذا نظر إليها الناظر، سقطت قلنسوته من على رأسه، فلما دعا الناس لحجها؛ غضبت العرب قحطانية وعدنانية، وأرسلت قريش شباباً في ظلام الليل، فدخلوا كعبة أبرهة وأضرموا فيها النيران، فغضب وأرسل جواسيسه لأخذ الخبر، فأخبروه أن قريشاً هي التي أججت بيته وأحرقته، فأعلن الحرب على بيت الله، سبحان الله! يحارب الله!

أيها المعتدي رويداً رويداً إن بطش الإله كان شديدا

إن بطش الإله أهلك فرعون وعاداً من قبلكم وثمودا

وتهيأ لهدم الكعبة، وسمعت العرب أنه سيخترق الجزيرة العربية من جنوبها إلى شمالها ليصل إلى مكة، وقامت قيامة العرب، لكن ماذا يستطيعون أن يقدموا؟

خرج بجيش قوامه ستون ألفاً معهم اثنا عشر فيلاً أكبرها وبطلها وشجاعها: محمود، ومهمته أن يتقدم الجيش وعلى متنه أبرهة الأشرم الظالم الضال، وسمعت قبائل اليمن بذلك، فغاضهم هذا، وإلا فهم وثنيون مشركون لكن العرف العربي سرى في أجسادهم، فاستنفروا قبائلهم واعترضوه، ولكنه سحقهم وقطع دابرهم، وأخذ يخترق جبال السروات والصحيح أنه أتى من الجبال المطلة على تهامة، وسمعت خثعم بقدومه، فأعلنت الحرب عليه، وقاد قائدهم نفيل بن حبيب الخثعمي - كما قال أهل السير -ونازلوه في جبال خثعم وبالخصوص قبيلة شهدان وناهس، فسحقهم لأمر أراده الله، ليري الله أهل الجزيرة كيف حماهم ووقاهم ورعاهم، وأخذ يخترق الجبال حتى وصل إلى الطائف فاستقبله أهل الطائف وقدموا له الخدمات - وهذا شأن العميل الذنب، الذي يحب المستعمر الأجنبي ويقدم له الخدمات على دماء قومه وعلى شرفه وعرضه وملكه وملك أجداده- وما اكتفوا بذلك؛ بل قام أبو رغال أحدهم، فدل أبرهة على طريق مكة من الهدى، ولذلك لما مات أبو رغال كان العرب يرجمون قبره غضباً لبيتهم ولدين آبائهم، ونزل أبرهة الأشرم وأتى موعود الله ونصره فأخذه.

وتمركز أبرهة في المغمّس قريباً من الحرم، وقريباً من وادي محسر وأخذ جيشه الظالم يغير على سوارح مكة وعلى إبلها وغنمها فيسبيها.

ولما سمع عبد المطلب جد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وكان رجلاً شهماً سيد مكة وابن سادتها، وكان له مائتان من الجمال أخذها أبرهة وجيشه، لبس لباسه وتوجه إلى أبرهة، وسمع بقدومه أبرهة، فلما رأى عبد المطلب وجلالته وسمته ووسامته نزل من على كرسيه وعانقه وأجلسه معه على البساط، فقال يا عبد المطلب! - بواسطة الترجمان-: ماذا تريد؟ قال: أريد جمالي التي أخذها جيشك، فقهقه أبرهة وضحك مستعلياً مستهزئاً، قال: لما أتيت ظننت أن فيك عقلاً، فأنا أتيت لآخذ بيتك وبيت أجدادك وآبائك، فلما كلمتني في الجمال احتقرتك واستصغرتك.

قال عبد المطلب: أنا رب الجمال، وللبيت رب يحميه.

أنا رب الجمال آخذها وأمنعها ولو أن ربها هو الله، لكن البيت لا نحميه، وإنما يحميه الذي أمر ببنائه، والذي أمر خليله أن يدعو الناس لحجه يحميه الذي سوّى سمكه ورفع بنيانه، فأخذ جماله وولى وترك المشهد هكذا.

وفي الصباح أراد عدو الله أن يتقدم ليهدم الكعبة -أول بيتٍ أسس على التقوى على لا إله إلا الله، وبعثت منه الرسالة الخالدة، وانطلقت منه الأجيال، لترد أهل الطاغوت إلى الحق، وأهل الظلام إلى النور، وأهل الغي إلى الرشد- وأراد أبرهة أن يذهب بجيشه وفيلته فإذا أصبح عند الكعبة، ربط الجدران بالفيلة، ثم زجرها ليهوي البيت مرة واحدة، لكن الذي في السماء يرى ويبصر، والذي فوق سبع سماوات لا يغلبه غالب، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].

أما عبد المطلب جد الرسول عليه الصلاة والسلام وكان مشركاً، وكانوا إذا اشتدت بهم الأزمات، هربوا إلى الله، وإذا حلقت بهم فزعوا إلى الله، وإذا أدركهم الخسف والموت والهلاك دعوا الله، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].

أتى عبد المطلب في الصباح، فأخذ بحلق الكعبة وأخذ يهزها، ويقول:

لاهم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك

لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك

ثم ولَّى ودعا القرشيين إلى أن يخرجوا إلى الجبال، فأخذوا أطفالهم وقد اختلط صوت بكاء الرجال والنساء والأطفال، وأخذت المواشي تهرب من مكة، والحمام يهاجر ويفر خوفاً وهرباً من اعتداء الظالم، وأخذوا يستعصمون بالجبال، ولا عاصم من أمر الله إلا الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015