كرم النبي صلى الله عليه وسلم

المسألة الحادية عشرة: وفيها كرم النبي صلى الله عليه وسلم، وإيثاره على نفسه وأهله وخادمه.

فلن تجد في الأمة أكرم من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في مسند أحمد عن جابر بسند جيد قال: {ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إلا مرة، سأله أعرابي شيئاً فقال: لا.

وأستغفر الله} أي: أستغفر الله من كلمة (لا) فالمؤمن إذا كان في موجوده شيء فلا يقل: لا؛ لأن الله ذم الذين يمنعون الماعون، وهم الذين يمنعون القدْر عاريةً، أو الإبرة أو الخيل أو الخيط أو الخدمة، حتى ذكر أهل العلم أن من يمنع البسمة عن الناس فهو من أبخل الناس.

والناس عيال لله عز وجل أحبهم إلى الله عز وجل أنفعهم لعياله، والله عز وجل جعل أسباب بعض الناس ببعض، فإنه هو الغني، والله قادر أن يغني كل أحد عن أحد، لكنه جعل هذا ليبتلي به هذا {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20] قيل: (جعلنا بعضهم لبعض فتنة) ابتلى الغني بالفقير، وابتلى الصحيح بالسقيم، وابتلى هذا بهذا؛ ليرى الله من الذي يؤدي حقوقه تعالى.

وفي حديث ابن عباس الصحيح: {يقول الله يوم القيامة للعبد: يابن آدم! مرضت فلم تعدني.

قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته وجدت ذلك عندي.

يابن آدم! جعت فلم تطعمني.

قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي} الحديث.

فالرسول عليه الصلاة والسلام كان من أكرم الناس، يجود بكل ما ملك، ولو استغنى عن قميصه لجاد به، بل حدث -كما في صحيح البخاري - أنه جاد بقميصه الذي عليه، يقول سهل بن سعد في الصحيح: {أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! خذ هذا الكساء، فقد نسجته لك بيدي بأبي أنت وأمي، فأخذه عليه الصلاة والسلام ولبسه محتاجاً إليه، فلما لبسه تعرض له رجل من الناس، فقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي أعطني هذا الكساء.

قال: انتظر قليلاً، فدخل بيته عليه الصلاة والسلام وتأزر بأزرة وخلع له الكساء وأعطاه إياه.

فقال الصحابة: بئس ما صنعت، لبسه صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليه ثم سألته وتعلم أنه لا يرد أحداً.

قال: والله! ما أخذته إلا ليكون كفناً لي بعد أن لامس جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال سهل بن سعد: فوالذي نفسي بيده لقد كان كفنه ودفن فيه}.

ولذلك قال ابن المبارك: أرى أن يكفن المسلم في ثيابه التي كان يكثر فيها الصلاة وقيام الليل؛ لأن الله يقول: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] أي: الآثار التي كانت عليهم، وممشاهم وقعودهم، والله يقول في محكم كتابه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29] قالوا لـ ابن عباس: [[أتبكي السماء على الصالح؟ قال: نعم.

والذي نفسي بيده إنه ليبكي ما يماثله من السماء، ويبكي عليه مصلاه ويبكي ممشاه إلى المسجد]] والله أعلم كيف الحالة، فهو الذي خلق وتصرف، فنحيلها على علمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

فالرسول صلى الله عليه وسلم من أجود الناس.

وفي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان أجود بالخير من الريح المرسلة، ما يمسك شيئاً، فإذا دخل رمضان دارسه جبريل القرآن فيكون صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، ولذلك ذكر أبو نعيم وابن كثير والذهبي في ترجمة زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً

قال تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34] علي بن الحسين سمي زين العابدين؛ لأنه كان يصلي حتى أخذ السجودُ في أنفه وجبهته وسمة، فإذا خرج إلى الناس ورأوا وجهه تذكروا الله عز وجل، فقالوا: لا إله إلا الله.

ولما حضرته الوفاة أتوا يغسلونه -كما يقول أبو نعيم الأصفهاني والذهبي وابن كثير -فوجدوا في كتفه أثر الحبل، كأنه حبل أثر في كتفه، فسألوا أهله فقالوا: والله إن هذا وسم ما كان يحمل للفقراء، كان يصلي فإذا أظلم الليل قام فأخذ حمول التمر والزبيب والحب وحمله إلى فقراء المدينة حتى يأتي الفجر.

فهذا هو علي بن الحسين الذي يقول فيه الفرزدق:

ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعمُ

لما رآه داخلاً الحرم وقد ازدحم الناس، وما استطاع هشام بن عبد الملك أن يطوف، فتأخر إلى زمزم وجلس على كرسي وهو خليفة، فلما رأوا علي بن الحسين وأقبل بوجهه كأنه فلقة قمر وبيده خيزران وعليه ثيابه، فلما رأوه انقشعوا عن وجهه وأخذوا يفسحون له الطريق ويدعون له ويسلمون عليه، فأخذ يطوف فقال أهل الشام لـ هشام بن عبد الملك: من هذا ما عرفناه؟ قال: ما عرفته.

مع أنه يعرفه، لكنه حدسه وغمط حقه، فقام الفرزدق، فقال:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا

إلى أن قال:

ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم

يقول: أنه ما يعرف (لا) إلا في لا إله إلا الله، أما في غيرها فلا يعرفها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015