إثم من قصر في عمله

اسمع إلى الحبيب عليه الصلاة والسلام يقول في الصحيحين: {ما من عبد يسترعيه الله عز وجل على رعية، يموت يوم يموت غاشاً لرعيته، إلا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة} وفي لفظ صحيح: {ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته؛ إلا حرم الله عليه الجنة} غاش ما أعطاها حقها، ولا أنصف مكلومها وما رد ظالمها، وما قضى حوائج أمة محمد عليه الصلاة والسلام.

إنه حديث عظيم وفي العموم ما من عبد قلت مهمته أو كبرت إلا يسأله الواحد الأحد يوم العرض الأكبر: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24 - 25] والجندي واللواء، والقائد، والموظف، والداعية، والأستاذ، كلهم مسئولون:

إذا قيل أنتم قد علمتم فما الذي عملتم وكل في الكتاب مرتب

وماذا كتبتم في شباب وصحة وفي عمر أنفاسكم فيه تكتب

فيا ليت شعري ما نقول وما الذي نجيب به إذ ذاك والأمر أصعب

إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب

حضرت الخليفة عبد الملك بن مروان الوفاة، فلما أصبح في سكرات الموت، ذهبت الجنود والجلود، والرايات والعلامات، والفضة والذهب، والدور والقصور قال: لا إله إلا الله! يا ليتني ما عرفت الخلافة، يا ليتني ما توليت الملك، يا ليتني كنت غسالاً، قال: سعيد بن المسيب يعلق على القصة: -ذكرها الذهبي الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا في سكرات الموت ولا نفر إليهم]].

وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند مسلم في الصحيح أنه قال: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به}.

ومعنى ذلك: يا رب من شق على أمتي، فحبس صاحب الحاجة، وأخر صاحب الطلب، وغلظ في الخطاب وأتعب المسلمين؛ فأتعبه يا رب يوم العرض الأكبر يوم لا حاكم إلا أنت، ولا منصف إلا أنت، ولا حكم إلا لك.

ويا رب! من تولى أمراً قليلاً صغيراً أو كبيراً، فرفق بالأمة ورحم ضعيفها، وقضى حوائجهم، وحنَّ عليهم، وتلطف معهم، وصبر على أذاهم؛ فارفق به يوم العرض الأكبر، يوم تتطاير الصحف، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وقال عليه الصلاة والسلام: {إن شر الرعاء الحطمة} حديث رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح، والرعاء جمع راعي، وهو ولاه الله مسئولية على المسلمين، ولو في مكتب، ولو على اثنين، ولو على دائرة، ولو على مصلحة صغيرة، هذا من الرعاء.

والحطمة معناه: ما استخدم قائداً للإبل أو راعياً لها إذا حطم الإبل ولم يحسن سياستها ورعيها، فحطم بعضها ببعض وأهلكها، فهذا من شر الرعاء.

دخل عائد بن عمرو على عبيد الله بن زياد الوالي فقال: يا أيها الأمير ارفق بالأمة، فإني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إن شر الرعاء الحطمة} وهو الذي لا يرفق بالأمة، وهو الذي يعصف بالناس، وهو الذي لا يقضي حوائج الناس على الوجه المطلوب.

اسمع إلى حديث عظيم رواه أبو داود والترمذي قال عليه الصلاة والسلام: {من ولاه الله شيئاً من أمر أمتي، أو من أمر المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم؛ احتجب الله دون حاجته وفقره وخلته يوم القيامة} حديث صحيح.

معنى الحديث: من ولاه الله مسئولية الأمة فاحتجب، وقطع الطرق إليه، وعطل المسئولية، ولم يقم بالواجب، وأخر المراجعين، والمحتاجين، وكبت المساكين، احتجب الله دون حاجته وخلته -يعني مشقته- وما يحتاجه يوم القيامة، أو حاجته الداخلية وفقره يوم العرض الأكبر.

واحتجب هنا بمعنى أن الله له حجاب خاص يليق بجلاله، يحتجب عمن احتجب عن حوائج المسلمين، ومقصود هذا عذاباً وجزاءً ونكالاً، والجزاء من جنس العمل، فكما احتجب عن الأمة، وكما عطل معاملات الأمة، يعطله الله يوم العرض الأكبر، ويؤخره الله في العرصات، ويحتجب دون حاجته، فلا يرفع حاجته، ولا يجيب دعوته، ولا يسد عوجه، ولا يغني فقره، ولا ينجي مقصده، فيبقى في الأذلين الخاسرين.

يا لخسارة من ظلم يوم العرض الأكبر، يوم يقول الله: لمن الملك اليوم؟ فيجيب نفسه بنفسه: لله الواحد القهار.

إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصوم

أما والله إن الظلم شينٌ وما زال المشين هو الظلوم

هذه قالها أبو العتاهية -وقيل أبو نواس - أرسلها في رسالة للأمير عندما حبسه في سجن، فدمع في ظلام الليل، وكتب هذه الأبيات في قصيدة طويلة إلى الخليفة، فأبكاه حتى بلَّ الرسالة بالدموع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015