المسألة الثانية: الإخبار عن حال الضر لا على وجه التشكي، فلك أن تخبر عن أيامك السالفة في الجوع والمشقة، ولك أن تخبر عما أصابك من أمراض، لا على أن تشكو الرحمن الرحيم إلى الناس، فإنك إذا شكوت الرحمن الرحيم كأنك تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم.
ولا تشيم إلى شخص لتشمته شكوى الجريح إلى الغربان والرخمِ
فالذي يشكو إلى العباد كالجريح الذي يشكو إلى الغربان والرخمِ، يقول: أنا جريح فانظروا إلى جرحي.
فهذا الأمر جائز إذا لم يكن على وجه التشكي، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم، {أن الرسول صلى الله عليه وسلم زار بقيع الغرقد، ثم عصب رأسه عليه الصلاة والسلام، فقالت عائشة رضي الله عنها: وارأساه -كان بها صداع ذلك اليوم- قال: بل أنا وارأساه، والله لقد هممت أن أدعو أباك وأخاك فأكتب لهم كتاباً} لأنه مرض الموت، فشكا عليها لا لأنها شكوى، ولكن أخبرها إخباراً عليه الصلاة والسلام، لا على وجه التسخط والتذمر لكن على وجه الإباحة.
ولا بد من شكوى على ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
فهذا جائز، ولذلك أخبر الصالحون عن أحوالهم، وللعبد أن يخبر بما مر به من نكد عيش وفقر؛ ليقمعه هذا وليرده عن الكبر والعجب، ولأن بعض الناس إذا ترأس أو اغتنى أو كان له أولاد أو أملاك نسي ما قدم في الأيام؛ فأخذه الجموح والغلو ونسي ما عند الله وما أعد وما كان فيه، ولذلك يقول ابن عمر رضي الله عنه: [[جمع أبي الناس -يعني عمر - فنصبنا له منبراً فجلس عليه، فقال: أيها الناس! من أنا؟ قالوا: أنت أمير المؤمنين.
قال: أنا عمر بن الخطاب، كنت أدعى في الجاهلية عمير، كنت أرعى الغنم لـ ابن أبي معيط على حفنة من تمر.
قال: فلما انتهى المجلس قلت: يا أبتاه! ما حملك على ما صنعت؟ قال: زهتني نفسي وأعجبتني فأردت أن أكسرها أمام الناس]] فهذا هو الأدب، وهذه هي التربية، وهذا هو الوصول والاتصال بالحي القيوم.
وسعد رضي الله عنه سوف يتحدث وسوف نسمع كلامه بعد قليل عن نفسه وعن حاله، وعلي كذلك وغيرهم من الصحابة الأخيار، لكن هناك مسألة استثناها أهل العلم وهي: من كان في معاصي وفي سيئات فتاب الله عليه، فليس له أن يتحدث للناس بمعاصيه ولا بماضيه الغابر، بل عليه أن يتوب إلى الله ويستغفر، وأن يستر ما بينه وبين الله عز وجل، فإن الله يستر على العبد في الدنيا إذا ستر على نفسه، ويغفر له في الآخرة، وفي الحديث الصحيح عن ابن عمر قال: {حدثنا صلى الله عليه وسلم عن النجوى.
قيل له: كيف حدثكم عن النجوى؟ قال: يدني الله عز وجل عبده يوم القيامة حتى يضع كنفه على كنفه، ثم يقول: يا عبدي! أما فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى يا رب.
قال: أما فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى يا رب، قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وغفرتها لك اليوم} فليس للعبد أن يقوم أمام الناس أو في المجالس ويقول: فعلت كذا وكذا في الجاهلية، وفعلت كذا وكذا في وقت الجهل، وفعلت كذا وكذا في شبابي.
بل عليه أن يستتر بستر الله، وإذا ابتلي العبد بشيء من الفضائح فليستتر، فإن الله يغفر الذنب ويتجاوز عن السيئات ويعلم ما تفعلون، والله ستير حيي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن الغسل والإنسان متكشف قال: {إن الله حيي يحب من عبده أن يتستر} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وفي حديث سلمان عند الترمذي: {إن الله عز وجل حيي يستحيي من أحدكم إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً}.
إذا علم هذا فليس للإنسان أن يتحدث بالأخطاء ولا بالمعاصي ولا بالذنوب، لكن يأتي بوابل من الاستغفار، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: في الدنيا ثلاثة أنهار، فمن لم تطهره ثلاثة أنهار أو واحد منها فسوف يدخل يتطهر في كير جهنم ثم يخرج إلى الجنة.
ثلاثة أنهار في الدنيا لابد للعبد أن يحرص أن يتطهر فيها، لأننا كلنا أهل سيئات وخطايا، فمن لم يتطهر بنهر من الأنهار الثلاثة فلا بد له من كير جهنم يتطهر فيها ثم يخرج ويدخل الجنة، النهر الأول: نهر التوبة، وهو أعظم الأنهار، والله عز وجل ما أغلق باب التوبة ولن يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها، ولا يزال الله يتوب على العبد مهما اقترف من السيئات والخطايا إذا تاب وأناب وصحت التوبة.
النهر الثاني: الحسنات الماحية، فإن بعض الناس كثير الإساءة، ثم يأتي بأعمالٍ صالحةٍ من قراءة وذكر وصيام ونوافل ودعوة إلى الله وعمل صالح، فتغمر هذه الأنهار جبال السيئات وتمحوها فلا تبقي لها أثراً ولا عيناً.
والنهر الثالث: المصائب المكفرة، فإن بعض الناس يبتلى بالسيئات والخطايا فيسلط الله عليه المصائب والمحق، ويسلط عليه الفتن والمحن والهموم والغموم، حتى يلقى الله وهو طيب مطيَّب، طاهر مطهَّر.