استدعى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه سعيد بن عامر أحد الصحابة الفقراء الشباب المجاهدين العُبَّاد، وما كان له من المال شيئاً كان له صحفة يأكل ويغسل منه ثوبه؛ وعنده إبريق يغتسل فيه، ويتوضأ فيه؛ وعنده عصا، وعنده شملة يفترشها؛ فاستدعاه عمر وسعيد بن عامر هذا من المهاجرين الكبار، قائم لليل صائم للنهار، فاستدعاه عمر، وقال له: [[يا سعيد بن عامر: إني فكرت في أمر حمص وحمص بلدٌ في الشام في سوريا، وفكرت من أولي عليها أميراً، فما وجدت إلا أنت، فقد أرسلتك عليها أميراً.
قال: يا أمير المؤمنين اعفني، لن أتولى، فدمعت عين عمر، قال: تجعلون الخلافة في عنقي، ثم تتركونني، وتتركوها لي، والله لتعينني عليها قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأرسله أميراً، ثم أعطاه عطاءه- لا أدري ثلاثة آلاف درهم، أو ثلاثة آلاف دينار- فأخذ هذا العطاء، وجمع بعض المال معه، وقال لزوجته: ما رأيك في هذا المال نعطيه شريكاً يعطينا، في الدرهم عشرة دراهم وزيادة، فقالت: وهل تجد من يعطيك هذا، قال: نعم، قالت: هذا مالي مع مالك وتاجر فيه ما دام أنه يعطينا ضعفه؛ فأخذه فأنفقه في سبيل الله مرة واحدة، ثم ذهب بصحفته وشملته وإبريقه وعصاه، ووصل إلى أهل حمص ودخل عليهم في نسك وخشوع لا يعلمه إلا الله، فلما رأوه قالوا: من أين أتيت؟ قال: من المدينة، مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، قالوا: هل رأيت أميراً، أرسله عمر سمعنا أنه سوف يصل، قال: هو أنا، قالوا: لست أنت أميرنا، وما هيئتك أنك أمير! قال: إن شئتم أن أدخل دخلت المدينة، وإن شئتم أن أخرج خرجت، قالوا: ادخل؛ فدخل، فاستمر في إمرته فما مرت الأيام حتى جلس عمر بن الخطاب يتتبع أخبار الأمراء، وكان يحاسبهم كل سنة والعصا بيده.
فكان يجمع عوام الناس وأعيان الناس وأعيانهم وعلمائهم وكبراءهم، ويجمع الأمراء، فلما سأل عن سعيد قال: ماذا تنقمون عليه، وماذا ينقم عليكم؟! فقالوا: يا أمير المؤمنين والله ما أخذنا عليه شيئاً، فقد كان من أحسن الناس سيرة وجهداً وعبادة، إلا أربعة أمور، قال: ما هي؟ وقال عمر في نفسه: اللهم لا تخيب ظني فيه، فإني ما علمته إلا من خيرة أصحاب رسولك صلى الله عليه وسلم، قالوا: أما الأمر الأول فما يخرج إلينا حتى يتعالى النهار فيجلس إلينا أي ما يخرج إلينا إلا ضحى.
وأما الأمر الثاني: فإن له يوماً في الأسبوع لا نراه ولا يرانا.
وأما الأمر الثالث: فإنه يغمى عليه أحياناً فيصرع في مجالسنا.
وأما الأمر الرابع: فلا يخرج إلينا في الليل مهما طرقنا.
فقال عمر: أجب عن نفسك يا سعيد! قال: اعفني يا أمير المؤمنين! -لا يريد أن عمله وأوراقه تعلن أمام الناس- قال: والله لتجيبن قال: اللهم إنك تعلم أني ما قمت رياءً أما قولهم: إني لا أخرج حتى يتعالى النهار، فأنا رجلٌ امرأتي مريضة منذ سنوات، فأنا أصلح طعامي، وأجهزه وأهيئه، ثم أفطر، ثم أكنس البيت، ثم أخرج إليهم.
قال: هذه واحدة -ودموع عمر تسيل على لحيته- قال: والثانية؟ قال: أما قولهم: لا أخرج بليل فقد جعلت النهار لهم، والليل لربي، فما أصلي العشاء، إلا وأقوم وأتنفل حتى صلاة الفجر، قال: واليوم الذي لا تخرج فيه؟ قال: وأما اليوم الذي لا أخرج فيه؛ فليس لي خادم وامرأتي مريضة، فأنا أغسل ثيابي وثياب أهلي يوماً في الأسبوع.
قال: وما لك تصرع ويغمى عليك في المجلس؟ قال: يا أمير المؤمنين! إني حضرت قتل خبيب بن عدي في مكة، وأنا مشرك يوم قتل خبيب بن عدي فحضرت قتله، فلما رفع التفت إلينا جميعاً، وقال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحدا، فما ذكرت ذاك الموقف لأني ما نصرته إلا أغمي عليَّ، فبكى عمر حتى كاد يغمى عليه، وقال: [[الحمد لله الذي لم يخيب ظني فيك]].
ذاك الطراز الرفيع الذي أخرجه عليه الصلاة والسلام، من مثل هذا الرجل فرضي الله عنهم، وأرضاهم، وألحقنا بهم في دار كرامته.