وبينما هو في أثناء الطريق أتته سكرة الموت، قال الله: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] فلما أتته سكرات الموت وحضره اليقين قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قبضت روحه، ما صلى ولا صام ولا تصدق ولا زكى وما فعل خيراً قط، إنما تاب إلى الله، وأتت الملائكة من السماء بسرعة، ملائكة الرحمة معها السجلات، وملائكة العذاب معها السجلات، وقفت عند رأس الميت، تقول ملائكة الرحمة: هذا عبد مصيره الجنة، هذا تاب إلى الله وأناب، ورجع إلى الله، وتوضأ بماء التوبة.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادقٍ أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
قالوا: مصيره الجنة، قالت ملائكة العذاب: لا.
هذا مجرم قتل مائة نفس، تلطخ بالدماء، ارتكب جريمة لا تغتفر، ولكن ما فعل خيراً قط، ما صلى ولا زكى ولا تصدق وما فعل خيراً قط، فكيف يدخل الجنة؟ ووقف الجدل والحوار الساخن بين الطائفتين، فأوحى الله من فوق سبع سماوات إلى ملائكته في شأن هذا العبد، قال لهم: قيسوا ما بين المسافتين {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] من المكان الذي توفي فيه إلى القرية التي خرج منها، ومن المكان الذي توفي فيه إلى القرية التي خرج إليها، فإن وجدتموه أقرب إلى إحدى القريتين فهو منها، فقاموا يذرعون بالأشبار ما بين القريتين، فأوحى الله إلى تلك القرية الصالحة أن تقاربي.
يا لرحمة الله! وعطائه وفضله وغفرانه! يوم أن يتلطخ العاصي، ويوم أن يجرم المجرم، ويوم أن يقتل القاتل، ويوم أن يسرق السارق، ويشرب الشارب، ويفجر الفاجر، فلا يغفر له الناس، ولا يسامحون ولا يقبلونه، ولكن يقبله ربهم، ويغفر له، فقاسوا فوجدوه أقرب إلى تلك القرية، وأخذوه وهو في سكرات الموت -كما في الروايات الصحيحة- ينوء بصدره ويقترب عله أن يقرب ولو شبراً من القرية الصالحة، لأن قلبه تاق إلى التوبة وإلى العمل الصالح.
فقاسوا ما بين المسافتين فوجدوه أقرب إلى تلك القرية، فغفر الله له وأدخله الجنة.
فيا لرحمة الله! {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران:135] هكذا نكرة، فاحشة كبرى تحت أستار الظلام، أو بين الحيطان، لا يراهم إلا الرحمن.
وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمةٍ والنفس داعيةٌ إلى العصيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يرانيِ
{{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ}} [آل عمران:135] والعبد تمر به فترات ينسى عقله وإرادته، وينسى صدقه وأمانته، بل ينزع عنه الإيمان فترة من الفترات.
يقول عليه الصلاة والسلام: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشربها وهو مؤمن} قال أهل العلم: يرتفع إيمانه كالظلة على رأسه في وقت مزاولة الجريمة، وبعد أن ينتهي يراجع حسابه مع الله، يتذكر القبر حفرة من الحفر يدس فيها كقطعة الطين، أو كقطعة من الحجر، لا أنيس ولا حبيب ولا قريب ولا مال ولا ولد، يتذكر الصراط، ويتذكر موعود الله، ولقاء الله، فيقول: أستغفر الله.
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى متحدياً كبراء ورؤساء الأرض، يقول: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] هل هناك أحد يغفر الذنب إلا الله؟ الناس لا يغفرون، ولا يسترون، ولا يسامحون، ولكن الله يسامح ويغفر ويستر.
{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].
إلهي لا تعذبني فإني مقرٌ بالذي قد كان مني
فما لي حيلةٌ إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم، وارجوا لقاءه، وتوبوا إليه من الجرائم والفواحش، فقد فتح بابه لكم، وقد رفع حجابه لكم، وقد مد يده وبسطها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، غفرانك ربي أسأنا وأخطأنا وأذنبنا وأجرمنا، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.