المسألة الثالثة: أن على طلبة الحديث ألا يكتفوا برواية الحديث.
فإن رواية الحديث وحدها لا تشفع عند الله، ورواية الحديث وحدها بلا عمل إنما هي تزيد من الحجج على الكتف، وتزيد من حجج الله على الظهر، وهي علامة الإفلاس والخذلان؛ إذا لم يعمل العالم بعلمه.
وقضية حفظ الأحاديث بدون عمل، كمثل الكنز كما يقول الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل: العلم إذا لم ينفعك كالكنز الذي لم تُنفق منه، ولو أن بعض أهل العلم صحح هذا الحديث مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم، لكن في صحته نظر.
فلا يظن الواحد منا إذا حفظ الصحيحين، أو السنن الأربع، أو مسند الإمام أحمد بدون أن يعمل بما فيها؛ أنه سوف يكون من الأولياء الكبار، أو يشفع لمثل مضر أو لمثل ربيعة، لا والله حتى يعمل بالحديث، فانظر إلى كم يحفظ أبو بكر الصديق؟! كم يحفظ عمر؟! كم يحفظ عثمان؟! كم يحفظ علي؟! رضي الله عنهم أجمعين يحفظون عشرات ومئات الأحاديث، لكنهم مع ذلك سنة تمشي على الأرض، وكل واحدٍ منهم إذا رأيته كأنه قرآن يمشي على الأرض، خلقهم القرآن، وحياتهم الكتاب والسنة، أما المتأخرون فإنهم التفتوا إلى الرواية وغفلوا عن الرعاية.
ذكر الذهبي، أن رجلاً ولا أريد أن أسمي الأسماء يحفظ مائة ألف حديث، قال: وكان فاسقاً لا يصلي.
محدثٌ يحفظ مائة ألف حديث بأسانيدها، ويجرح رجالها، ويعدلهم؛ لكن كان فاسقاً لا يصلي!
وترجم لمحدث آخر شهير، له جلالة في الدنيا، وليس في القلوب إنما في الدنيا، قال: وكان يشرب المسكر سامحه الله؛ يشرب الخمر! أين الحديث؟! أين حدثنا، وأخبرنا، وعن، وسمعت؟!
وترجم لراويةٍ آخر، وقال: كان مبتدعاً صرفاً حاسبه الله بفعله.
بل كثير من رءوس المبتدعة كان لهم مجالس الإملاء؛ يجلس في مجلسهم خمسون ألفاً، أو أربعون ألفاً من الناس.
فيا صاحب الحديث والله لو لم تحفظ إلا حديثاً واحداً، وعملت بما سمعت فإنك أفضل مما لو حفظت أحاديث الدنيا ثم لم تعمل بما سمعت وقرأت.
الحديث عمل وتطبيق، الحديث خشية ومخافة من الله، الحديث أن تظهر السنة على معالمك، وهيئتك، وعلى تطبيقك وسلوكك.
روي عن الإمام أحمد أنه قال: الحمد لله كتبت المسند من أربعين ألف حديث بالمكرر ما من حديثٍ يقبل العمل إلا عملت به؛ يخبر الناس ليقتدوا به، فقال له أحد تلاميذه: وحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام بقي في غار ثور ثلاثة أيام، قال: نزلت إلى غارٍ في الكرخ لما أتت محنة القول بخلق القرآن فجلست ثلاثة أيام، هذا هو التطبيق، وهذه هي السنة.
وسعيد بن المسيب يسأله سائل في حديث وهو في مرض الموت، فقال: أجلسوني، قالوا: أنت مريض، قال: سبحان الله يذكر الرسول عليه الصلاة والسلام وأنا مضطجع!! لا والله حتى أجلس.
وإبراهيم بن طهمان؛ وكان فيه إرجاء، رحمه الله رحمةً واسعة، لكنه كان من العلماء المشاهير، أثنى عليه الإمام أحمد، وكان الإمام أحمد في مرض الموت فسألوه عن إبراهيم بن طهمان، فجلس، وتربع، وقال: لا ينبغي أن يذكر عندنا الصالحون ونحن مضطجعون.
أو كما قال، وذكر القصة الذهبي وابن كثير.
والشاهد هو: كيف كان تطبيقهم للحديث وأثره؛ في سمتهم، وأخلاقهم وصفاتهم وسننهم.