قال المتنبي:
أرى كلنا يبغي الحياة بجهده حريصاً عليها مستهاماً بها صبا
فحب الجبان النفس أورده البقا وحب الشجاع الحق أورده الحربا
يقول: إن الجبان يحب الحياة وكذلك الشجاع، ولكن الفرق بينهما أن هذا يحيا سعيداً مكيناً مرفوع الرأس، وذاك يحيا خائفاً جباناً فاتراً متخلفاً، ويقول الله عز وجل عن شجاعة أهل الإيمان وإقدامهم، وعن فرضهم لرأيهم الحق، وعن كفاحهم ومدافعتهم عن آرائهم وأقوالهم ومبادئهم: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] أي: قل يا محمد أنت وأصحابك وجيلك للكفرة والعملاء والزنادقة والمارقين والمرتدين: إنكم تتربصون بنا إحدى الحسنيين؛ إما أن نعيش أعزة نحمل المبادئ ونحن أقوياء، أو أن نموت في سبيل الله شهداء وهذا مكسب عظيم، ويقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
فبين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن الأجل بيده، وأنه لا يتدخل أحد في تقديم ساعة أو تأخيرها ساعة، ولا يملك النفوس إلا الله.
وتهدد الله اليهود الجبناء بالموت فقال: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة:8] فأخبر أنهم جبناء يحبون الحياة، وقال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] قال أهل العلم: إنما نكَّرها لِتعم فمعناها حياة، لكنها أي حياة، حياة البهائم، وحياة الوحوش والزواحف وحياة القردة والخنازير، أي حياة ولو كانت بلطم الوجوه، ولو كانت بكسف البال.
قال الله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96] ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للصحابة ولمن سار على منوالهم من أمثالكم ممن يتوضأ خمس مرات، ويحمل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] في قلبه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] يقول: إن تعبتم أو أرهنتم أو خفتم؛ فإن العدو الكافر المنافق يناله مثلما ينالكم.
وهذا صحيح، فإنكم تعلمون أن كثيراً من المخطئين الضالين، من البعثيين والماركسيين والعلمانيين والحداثيين، والدجالين الماكرين وشربة الخمور والزناة يحبسون ويجلدون ويقتلون، ومع ذلك تجد الواحد يصامد ويجالد من أجل فاحشته ومنكره ومبدئه الخاطئ.
ولكن يقول الله: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] يقول: اصبروا قليلاً كما صبروا، مع العلم أنه ينالهم الأذى والقرح، وأنتم كذلك ينالكم الأذى والقرح، ولكن النتيجة مختلفة.
وهذا كما قال النابغة الجعدي لما وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام واستهل قصيدته يمدح قبيلته:
تذكرت والذكرى تهيج على الفتى ومن عادة المحزون أن يتذكرا
فلما قرعنا النبع بالنبع لم تكن على البعد في عيدانه أن تكسرا
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا
يقول: ما أتوا إلينا وهم نساء، أتوا ومعهم سيوف تقطع الرءوس ومعنا سيوف، فسقيناهم الموت وسقونا الموت بها، وصبرنا قليلاً فانتصرنا.
وننكر يوم الروع ألوان خيلنا من الضرب حتى نحسب الجو أشقرا
إلى أن يقول في نهاية قصيدته:
بلغنا السما جوداً وجداً وسؤددا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال عليه الصلاة والسلام وهو يهتز متبسماً: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة.
قال: لا فض فوك، فعاش مائة سنة ما سقط له سن ولا ضرس والشاهد هنا أن المسلم يناله الضر لكن النتيجة مختلفة.