قرأت في بعض الكتب أن داوُد عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك؟ قال: يا داوُد! أتعلم أن النعم مني؟ قال: نعم.
علمتُ يا رب! قال: فقد شكرتني، فجمع داوُدُ آلَ داوُدٍ! وقال: آتاكم الله النبوة والملك والعلم؛ فاشكروا الله، قالوا: وماذا نفعل؟ قال: تَجَزَّءُوا الليل ساعات وتَناوَبوا، كل ساعة يصلي فيها نفر، فقال الله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].
فمهما فعل العبد، فإنه لا يصل ولا يفي بهذه المقامات الثلاث.
فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] في السراء والضراء، وفي الأثر: {نعم عبدي المؤمن! أبتليه بجسده، ويقول: الحمد لله}.
وفي الإصابة لـ ابن حجر والاستيعاب لـ ابن عبد البر: أن عمران بن حصين أصيب بمرض، فمكث ثلاثين سنة، لا يرتفع عن فراشه، وكان يقول: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب العالمين، فإذا قيل له: ماذا أصابك؟ يقول: الحمد لله رب العالمين.
تموت النفوس بأوصابها ولم يَدْرِ عُوَّادها ما بها
وما أنصفتْ مهجةٌ تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
وهذا مثل ما قال المتنبي:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألَمُ
فإذا رضي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فهذا مما يُحْمد عليه في مواطن القضاء والقدر، وهي منزلة الصديقين عند الله عز وجل.
وهو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى محمود لذاته، فليس في صفاته صفات عيب، بل صفاته صفات كمال، فهو محمود لذاته جلَّ وعلا.
قال الزمخشري: الفرق بين الحمد والشكر: " أن الشكر على صنيع، والحمد بغير صنيع ".
فالحمد: أعم، سواءً قدم لك المحمود خيراً أو يداً أو عطية، فهو محمود، ولذلك تحمد الواحد الأحد.
وأما الشكر: فإنه لا يكون إلا على صنيع، فلا تقل للإنسان: شكراً، إلا إذا أعطاك شيئاً، أو قدم لك خدمة.
أما الله فهو محمود سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لصفاته، وأفعاله.
محمود في أفعاله؛ لأن أفعاله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كلها خيرة، ولذلك لا يُنسب الشر إليه، ولما قالت الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الجن:10]: بَنَتْه للمجهول، وأتَتْ بنائب الفاعل، فما أحسن الكلام!
يقول أحد المفسرين: عجيبٌ! حتى الجن يتذوقون اللغة! فلما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:1] قال: عجيب! يعرفون أن القرآن عجيب! كيف تذوقوا اللغة؟! فتَعَجَّبُوا منه.
وقال إبراهيم الخليل عليه السلام في القرآن الكريم: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] فلما بلغ إلى المرض نسب المرض إليه، وإلاَّ فالممرض حقيقةً هو الله، فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:80] وهذا تأدب مع الواحد الأحد.
والخليقة أقل الناس فيهم من يحمد الواحد الأحد، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] قال ابن الجوزي: أهل الإسلام أقل أهل الأرض، وأهل السنة أقل أهل الإسلام، وأقول هنا: والمخلصون أقل أهل السنة.
وقد كانوا إذا عُدُّوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليلِ
ويحكى أن عمر كان في السوق، فسمع رجلاً من الأعراب يقول: [[اللهم اجعلني من عبادك القليل، قال عمر: مَهْ؟! -أي: ما هذا الدعاء؟ - قال: يا أمير المؤمنين! يقول الله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فسألتُه أن يجعلني من القليل، قال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر]] بل أنت الفقيه، وأنت العالِم، وأنت الشيخ العظيم.