ورد في الأدب والسير: أن أعرابياً وفد على بعض الخلفاء وهو يبكي، فقال الخليفة: مالك؟ قال: أصبت في مال بأعظم من مصيبة المال، قال: وما هو؟ قال: ربيت ولدي؛ سهرت ونام؛ جعت وشبع؛ وتعبت وارتاح، فلما كبر وأصابني الدهر، واحدودب ظهري من الأيام والليالي، تغمط حقي، ثم بكى، وقال:
وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يَدَهُ اللهُ الذي هو غالبه
قيل: فلويت يد الابن فأصبحت ملوية وراء ظهره.
وفي السير وبعض التفاسير كـ الكشاف بأسانيد فيها نظر: أن رجلاً وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال مالك؟ فقال: مظلومٌ يا رسول الله! قال: من ذا الذي ظلمك وأنت شيخ كبير فقير؟
قال: ابني ظلمني، قال: كيف ظلمك؟ قال: ربيته، فلما كبر وضعف بصري، ورق عظمي ودنى أجلي، تغمط حقي، وظلمني وقابلني بالغلظة والجفاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهل قلت فيه شيء؟ قال: نعم.
قلت فيه أبياتاً، قال: ما هي؟ فقال له:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
يقول: ما هذا جزائي! وما هذا رد الجميل معي! وما هذا رد المعروف! حتى الليلة التي تصاب فيها بالسقم ولا تنام؛ أشاركك السهاد ولا أنام، أنت السقيم ولكن أخذت السقم عنك، وأنت المريض لكن أخذت المرض عنك.
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيناي تهمل
ثم يقول: أهذا جزاء الجميل؟! أهذا رد المعروف؟! أهذا حفظ اليد البيضاء؟!
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلتَ جزائي غلظةً وفظاظةً كأنك أنت المنعم المتفضل
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، وحق للقلوب اللينة، وللعيون الرقراقة بالدموع أن تدمع لهذه المآسي التي وجدت في بلاد الإسلام، والتي شكت قلوب الوالدين إلى بارئها هذا الظلم الفظيع، وهذا الجرم الشنيع، فهل أظلم وهل أكبر، وهل أشنع من أن تربي ابنك؛ فإذا قوي واشتد ساعده، وأصبح في مصاف الرجال -بعد أن أعطيته شبابك، وزهرة عمرك، ولذة روحك، وشجا نفسك- رد عليك الجميل منكراً؟! فإذا صوته صائلٌ في البيت، لا يجيب لك دعوة، ولا ينفذ لك أمراً، ولا يخفض لك جناحاً.
إنها -يا عباد الله- مأساة ما بعدها مأساة؛ ولذلك عدّ الإسلام بر الوالدين من أعظم الحقوق.