يروي لنا المعصوم صلى الله عليه وسلم قصة ثلاثة خرجوا في الصحراء من بني إسرائيل وأظلم عليهم الليل البهيم، فصعدوا جبلاً ودخلوا غاراً فانطبقت عليهم الصخرة فسدت بوابة الغار، فلا اتصال ولا عشيرة، ولا قبيلة ولا أهل، وهذه ساعة الاضطرار: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] وهذه هي وحدانية التحدي عند أهل التوحيد، وهي تعني ألا يجيب المضطر إلا هو، ولا يكشف المكروب ولا يفرج عن المغموم إلا هو، ولا يجيب صاحب الحاجة ولا يكشف الضر إلا هو.
ولقد ذكرتك والظلام مخيم والأسد تزأر في ربا الصحراء
في وحشة لو غبت عني ساعة لحسبتني شلواً من الأشلاء
ضل الرفيق فلست أدعو غير من خلق الوجود مصور الأحياء
هذا هو الله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10] أتوا يدفعون الصخرة فما اندفعت، لا طعام ولا كساء ولا شراب؛ موت محقق!.
فاتصلت حبالهم بحبل الله، الذي يدعوه المظلوم في ظلمات الليل فيسمعه، يونس بن متى في ظلمات ثلاث، ظلمة الليل وظلمة اليم وظلمة الحوت، فهمس في الظلمات بكلمة قوية: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" فأنقذه، قال الثلاثة: والله لا ينجيكم أحد إلا الله، فادعوه بصالح أعمالكم.
فقام الأول -وهو الشاهد- فتذكر أعماله فلم يجد أحسن ولا أرجى ولا أطيب من بره بوالديه، فخاطب الله علاَّم الغيوب، الذي يعلم السر وأخفى، قال: {اللهم إنك تعلم أنه كان لي والدان شيخان كبيران، وكنت لا أُقْدِّمُ عليهما أهلاً ولا ولداً، وقد غبت ورحت عليهما -غاب في غنمه وإبله- قال: فأتيت وإذا هما قد ناما، فحلبت غبوقهما -وهو الشراب من اللبن في المساء- وقمت بالإناء وأتيت به فوجدت الوالدين نائمين -انظر إلى الصورة انتظرا ولدهما ليأتي باللبن فتأخر فناما، فأتى بالإناء مترعاً باللبن ووقف، ومن البر أنه لم يوقظ والديه، لكيلا يزعجهما من النوم، فكيف بالذي أزعج والديه في الليل والنهار؟ وكيف بمن أبكى والديه صباح مساء؟ وكيف بمن أدخل المشاكل في بيت والديه؟ وأذاقهما المر الأمر وقد أذاقاه السعادة والراحة- وقف باللبن فقال: فكرهت أن أوقظهما وأطفالي يتضاغون عند قدمي من الجوع يريدون اللبن -لكن اللبن من نصيب والديه- قال: فلم أقدم أطفالي، ولم يسقِ أطفاله قطرة واحدة، وفلذاته يتقطرون تحت قدميه ويتضاغون كفروخ الطير من الجوع، قال: فقمت بالإناء من صلاة العشاء حتى لمع الفجر، فاستيقظا من نفسيهما، فقدمت الإناء فشربا، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك؛ ففرج عنا ما نحن فيه، فتدهدهت الصخرة} من عظم الخطاب، ومن قوة الجواب، ومن جلالة المقام، صخرة عاتية دهدهها الله بأنه استجاب، ثم تكلم الاثنان.
والشاهد هنا البر وكيف أوصل هذا الرجل إلى درجة أن يزحزح الله الصخرة عنهم.