والشاعر الآخر مسلم اسمه: الأعشى الهمداني قتله أدبه وشعره، وكان شاعراً مجيداً لكن خرج مع فتنة ابن الأشعث التي خرجوا فيها على عبد الملك بن مروان، ومعهم سبعون عالماً من علماء أهل السنة، رضي الله عنهم، منهم: سعيد بن جبير الذي ذهب دمه هدراً ورأسه شذراً، ومنهم: عامر الشعبي العالِم الكبير حتى أنه ذات مرة دخل الحجاج فقيل له: أين كنتَ؟ قال: كنتُ في مكان كما قال تأبط شراً:
عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى وصوَّت إنسان فكدتُ أطيرُ
وهذا من أجمل الأبيات، وهو من عيون الشعر وتأبط شراً ما كان يأخذ الجِمال ويستعيرها من أحد، وما كان يشتريها، بل كان يقول: الله هو الذي خلق الجِمال، وليست من الناس، فيأخذها عُنوة، وقد كان مارداً متجبراً، السيف عنده جاهز يقطر دماً يقول أحد الصعاليك: إذا مَرَّ بجِمالي قلت له: خذ ما تريد واذهب يقول في مطلع القصيدة، وهي خطيرة وأخَّاذة:
درى الله أني للجليس لشانِئٌ وتبغضهم لي مقلةٌ وضميرُ
يقول: لا تضيِّع وقتَك بالجلوس مع الناس، اذهب واسرق لك جِمالاً وكباشاً، وخذ لك واشبع.
درى الله أني للجليس لشانِئٌ وتبغضهم لي مقلةٌ وضميرُ
ولا أسأل العبد الفقير بعيرَه وبُعْران ربي في البلاد كثيرُ
عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى وصوَّت إنسان فكدتُ أطيرُ
المقصود أن الأعشى الهمداني خرج في هذه الفتنة، فلما خرج نَظَم قصائد فيمن كان أمير الفتنة ضد الحجاج، وهو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، يقول في بعضها:
يأبى الإله وعزة ابن محمد وجدود ملك قبل آل ثمودِ
أن تأنسوا بمُذَمَّمِين عروقهم في الناس إن نُسِبُوا عروق عبيدِ
يقصد الحجاج ومَن معه.
ثم رجع إلى الممدوح، يقول:
كم من أب لك كان يُعْقَد تاجه بجبين أبلج مِقْوَدٍ صنديدِ
إلى أن يقول:
بين الأشج وبين قيس باذِخٌ بَخ بَخ لوالده وللمولودِ
أي: بين أبيك وبين جدك.
فقال الحجاج لما سمعها: والله ما أتركه يبَخْبِخْ بعدها.
وهذه الكلمة تُنطق عند أهل اللغة: بَخٍ بَخٍ، وبَخْ بَخْ، والرسول صلى الله عليه وسلم لما تصدَّقَ أحد الصحابة بمزرعته قال: {بخ بخ ربح البيع} وضَبَطها المحدثون: بَخٍِ بَخٍ.
ما قصَّرَت بك أن تنال مدى العلا أخلاق مكرُمة وأجودَ جود
فاستدعاه الحجاج، فوقف أمامه، وحلف بالله: إنك أحب الناس عندي.
يقول هذا للحجاج وهو قد خرج عليه، وقال: إنه أحب الناس لأنه يرى النطع أمامه، والسيف مشهور، والكفن منشور قيل لبعض العلماء وهو يرتجف: ما لك ترتجف وقد كنت تشجعنا وتثبتنا؟ قال: ما لي لا أرتجف وأنا أرى قبراً محفوراً، وسيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً!! فحلف بالله إنني أحبك وإني ما خرجتُ رغبة، وإني قد قلت فيك قصيدة.
قال: وما هي؟ فقال القصيدة.
ثم قال له: أوَنِسْيَتَ قولك:
بين الأشج وبين قيس باذِخٌ بَخ بَخ لوالده وللمولودِ
والله لا تُبَخْبِخُ بعد اليوم، يا غلام ائتني برأسه، فضَرَبَ رأسه، فكأنه لم يُخلق له رأس.
وهذا لأنه لم يقدر الموقف.