وصاحبنا الثاني: أبو الطيب المتنبي، ولعلكم سمعتم به، وهو خطير جد خطير، فهو في الشعراء مثل أحمد بن تيمية في العلماء، وإذا جاء المتنبي انتهى الشعر والشعراء إليه، وقد استمر في الإحسان وفي الإهداء، حتى إن الشوكاني يقول في البدر الطالع: يكفيه فخراً وشرفاً أن له خمسمائة بيت تدور على ألسنة الملوك فقط، من غير رعاة الأبقار والأغنام فهو شاعر الدنيا، وديوانه قدر خمسمائة صفحة، له ما يقارب خمسة آلاف وستمائة بيت، أو ستة آلاف، وقد سرى بها في الدنيا وبعض المعاصرين لهم أربعة دواوين، كل ديوان مثل كيس الأسمنت، ولا يحفظ الناس منها بيتاً واحداً فهذا المتنبي، ويكفيه أنني عقدتُ له مناظرة، والمرجع: مقامات القرني
قلتُ: من أنت؟
قال:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسْمَعَتْ كلماتي من به صممُ
وتوقيعاته معروفة دائماً.
قلتُ له: ما رأيك في حُسَّادك؟
قال:
إني وإن لُمْتُ حاسِدِيَّ فما أنكر أني عقوبة لهمُ
اسمع هذا البيت، الْغِ الديوان وخذ منه هذا البيت، يقول: جعلني الله عقوبة لهم، لكن أستغفر الله لهم.
قلت: السفهاء يتطاولون على العظماء.
قال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كاملُ
هكذا تفجر طاقة في اللغة والإبداع، مع القلة والنزر اليسير، لكنه الدرر وكان خفيف الدين، عهده بالوضوء في عطلة الربيع حين سافر إلى مصر، يُقال: كان لا يشرب الخمر ولا يصلي، قلنا: وددنا لو أنه شرب الخمر وصلى.
وأوصي إخواننا أن يحفظوا ألسنتهم شعراً ونثراً وكتابةً من أعراض المسلمين، فإنهم إن لم يخافوا العقوبة في الدنيا والسلطة؛ فإن الواحد الأحد سوف يبرز للبشر على عرشه سبحانه وتعالى، ويحاسبهم بما اقترفت أيمانهم وأيديهم وألسنتهم، ووالله لن يغادروا الموقف حتى يقتص سبحانه وتعالى لعباده بعضهم من بعض.
فأتى -والعياذ بالله- وتعرض لرجل أغضبه اسمه ضبة، وقال في قصيدة له شنيعة لا أذكر منها الإسفاف -نعوذ بالله- فسأترك الفُحش الذي في ديوانه، ففي ديوانه فُحش ومقت وسُخط؛ وهذا لأنه ليس عنده تقوى ولا دين قال:
ما أنصف القومُ ضبة وأمَّه الطُّرْطُبَّة
فلا بمن مات فخراً ولا بمن عاش رغبة
وإنما قلتُ ما قلتُ رحمةً لا محبة
وحيلة لك حتى عذرت لو كنت تأبه
ومن يبالي بذم إذا تعوَّد كسبه
إلى هنا وأقف؛ لأنه دخل في أمور أستحي من ذكرها، وهي من أسوأ قصائده -كما يقول محمود شاكر، وغيره من الأدباء والنقاد- ومع ذلك كانت سبب حتفه، فرصد له ضبة وقوم من بني أسد وتعرضوا له، وفي الطريق رده أحد الأدباء وقال له: احذر، اتقِ الناس، إنك هجوت هؤلاء القوم وسوف يعترضون لك، فقال بكِبْر وعُجْب وتيه:
والله لو أن بني أسد ظمأى لخمس، ونهر الفرات يترقرق ويتقلب ماؤه كبطون الحيات -البلاغة عنده حتى ورأسه سيذهب! - ومخصرتي -أي: عصاي- على النهر، ثم رأوا الماء ما وردوه.
وهذه كذبة تصنَّعها، كذبة إبليس، فقالوا له: خذ حرساً، قال: أمِنْهُم؟! والله لو خيالي سارٍ لغلبهم، قالوا: هذا صِدْقٌ! فذهب في الصحراء، وإذا بهم بعد قليل يطوقون المكان بمن فيه، فقالوا له: ارفع يديك، فأراد أن يهرب؛ لأن حوله ما يقارب الستين، وأراد أن ينسحب، ومعه ابنه محسد ومولاه وقوم من مرافقيه، فانسحب وهرب، فصاح به مولاه -وقيل ابنه والصحيح أنه مولاه: ألستَ القائل:
الخيل والليل والبيداءُ تعرفني والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ
فقال: قتلتني قتلك الله! ثم رجع بالسيف، فقتلوه، فكأنه خُلق بدون رأس، وذهب رأسُه مِن أجل:
ما أنصف القومُ ضبة وأمَّه الطُّرطُبَّة
فانظر إلى هذه الخطورة وهذا الإعراض.