ترجمة أبي ذر الغفاري

والقضية الأولى: من هو أبو ذر الغفاري؟

أبو ذر هو الزهد، والزهد هو أبو ذر.

أبو ذر هو العبادة الناصعة والمدرسة المتوجهة التربوية التي تركها صلى الله عليه وسلم في العالم.

أبو ذر ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء فمجده، وذكر أنه من العلية الخالصة من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام.

يمتاز أبو ذر بأنه يبحث عن الحقيقة في وقت ضاعت فيه الحقيقة، أتى طالباً للهدى في وقت فقد فيه الهدى، هو من الصحراء، واضح وضوح الصحراء، صادق صدق الصحراء، شجاع شجاعة الصحراء.

أبو ذر غفاري من قبيلة غفار، التي تسلب الراحل في الليل لكنه هو لا يسلب أحداً بعد أن تعلم الخير والعدل والسلام.

سمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام طرق العالم، وتحدث بلا إله إلا الله في مكة، فأرسل أخاه إلى مكة، فذهب أخوه ولكن ما شفى له غليلاً ولا روى له عليلاً، فأتى أبو ذر، فركب ناقته، وذهب ووصل إلى مكة حيث الصخور السوداء، حيث الرسالة التي انبعثت من مكة، وحيث دعوة الله تعلن عالميتها، وليس معه إلا أربعة نفر، أبو بكر وزيد بن حارثة وخديجة وعلي بن أبي طالب، رجل ومولى وصبي وامرأة، والله يقول عن نبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فيضحك كفار مكة من هذه الرحمة التي للعالمين، وهو يحارب ويطرد ويجاع!

وبعد خمس وعشرين سنة سرت الرحمة المعطاة من الله إلى سمرقند، وطاشقند، والسند، والهند، وإلى بقاع الأرض وبقاع المعمورة.

من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا

كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا

إن هذا الدرس كمقدمة، وليس درساً تخصصياً إلا في الحلقة الثانية إن شاء الله، لكنه أشبه بالشذرات في التوجه والتربية، ليكون ديباجة للموضوع وممهداً لهذا الفصل من الحديث في فن الحديث.

فوصل أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه إلى مكة، لكنه لا يعرف أحداً في مكة، ولا يعرف أين يذهب، آواه الليل فاستتر بثياب الكعبة، وهو يحمل في قلبه البحث عن العدل والخير والسلام، ما وجد طعاماً، فما في مكة من يطعمه لأنه غريب.

غريب من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد

فأخذ يشرب من ماء زمزم، قال عن نفسه: شربت ماء زمزم، فأغناني الله به عن الطعام، فما جعت أبداً، حتى تكسرت عُكَنُ بطني من السمن، وهذه الخاصية ليست إلا لزمزم، ولا تكون لماء آخر في الأرض.

وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال

ثم نزل رضي الله عنه فوفق بـ أبي الحسن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صاحب الكلمة النفاذة والحسام الماضي في رقاب المعاندين، فعرف علي أنه غريب، فلما رآه تبعه ولم يسأل واحد منهما صاحبه، وهكذا في اليوم الثاني والثالث، فقال له علي: ألا تحدثني بالذي أقدمك؟

فأخذ عليه عهداً أن يرشده إلى ما يريد، فقال: إني سمعت عن رجل هنا يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، فقال علي: فإنه حق، وإنه رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل معي، وهذا كما قيل: إن في المعاريض مندوحة عن الكذب.

وانطلق أبو ذر في أول لقاء حار ومناظرة ساخنة بين التلميذ وشيخه، وبين الطالب ومعلمه، يقول له في أول اللقاء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فأطلقها أبو ذر قوية مؤثرة: السلام عليك ورحمته وبركاته، فكان أول من حيا رسول الله بتحية الإسلام، فرد عليه صلى الله عليه وسلم وجلس أبو ذر.

واسمع إلى الحوار الهادئ وإلى التوجه الرباني، وإلى هداية الله، يهتدي هذا من قبيلة غفار البدوية البائسة، وأهل البلد الحرام لا يهتدون، أبو طالب وأبو لهب وأبو جهل {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].

فقال: يا رسول الله! ماذا أرسلك الله به؟

فقرأ عليه شيئاً من القرآن، وتكلم بشيء من الدعوة فأسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: من أين أنت؟ قال: أنا أبو ذر الغفاري من غفار، فتبسم عليه الصلاة والسلام، غفار تأتي لتسلم، وتأبى قريش أن تسلم!

وهم أهل زمزم والحطيم والصفا والمروة، إنها هداية وولاية الله! قال: فعد إلى أهلك، فإذا سمعت بخروجي وانتصاري فتعال، ولكنه رفض أن يهدأ، بل قام على الصفا، فأعلن إسلامه فضرب حتى أصبح لابطاً في الأرض، وهكذا العظماء يضربون ويقتلون ويجرحون ويسجنون ويجلدون، فقام العباس وقال: اتركوه فإنه من غفار.

ثم عاد فأرسل دعوته في غفار، وأسلم معه سبعون من بيوت غفار، ودخل المدينة بجيش من المسلمين، ثم واصل المسيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي تبوك تخلفت به ناقته وهو في الصحراء وفي الرمضاء، يقتلع خطاه من الأرض اقتلاعاً في حرارة الصيف وفي وهج الشمس، فيقول عليه الصلاة والسلام لما رآه في حديث في سنده نظر: {رحمك الله أبا ذر، تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك}.

وعاد إلى المدينة فقال له صلى الله عليه وسلم: {يا أبا ذر! إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج من المدينة} وهذا الحديث سنده حسن أورده الذهبي في السير وغيره، والمقصود بـ سلع جبل في المدينة، ومعنى الحديث: إذا بلغ العمران جبل سلع وامتدت المدينة، فاخرج بإيمانك وعبادتك وزهدك.

كأنه شفاف، لا يستطيع أن يعيش مع الصخب، وبعض النفوس كالجوهر اللماع أي شيء يؤثر فيه، أو كالثوب الأبيض يتأثر من أي شيء لنصاعته وطهره، فلما بلغ البناء سلعاً أخذ غنمه وخيمته وعصاه، وخرج إلى الربذة على مسافة ثلاثة أميال من المدينة.

لا طفوني هددتهم هددوني بالمنايا لا طفت حتى أحسَّا

أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني ركبت في الحق نفسا

أطرد الموت مقدماً فيولي والمنايا أجتاحها وهي نعسى

أنا عاهدت صاحبي وخليلي وتلقنت من أماليه درسا

توفي في الربذة، ولفظ أنفاسه على زهد وعبادة وإخلاص، ويكفيه شرفاً أنه حفظ هذا الحديث الذي يصل إلى القلوب مباشرة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015