ومن أخطائنا: الفرار من الدعوة والمشاركة والتأثير، بحجة الفتنة والحفاظ على الدين، أنا لا أنكر أن العزلة قد تكون مستحبة أحياناً لبعض الناس، وفي بعض الأحوال، وفي بعض الأماكن، كعزلة أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه في عهد عثمان رضي الله عنه، لكن أن تكون صبغة عامة، أو يدعى إليها لتصبح ظاهرة في الصحوة، هذا ليس صحيحاً، وهذا خطأ.
ما هو دليل الذي يفر من المجتمع والمشاركة، ومن التأثير والدعوة؟ يستدلون بأدلة منها:
حديث أبي ثعلبة الخشني وهو حسن: {مر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة}.
وهذا لم يقع بعد، فما زال في الناس من يستمع، وما زال كثير منهم يقبل الحق ويتأثر بالدعوة، بل الكثير -والحمد لله- نرى منهم الاستجابة، ونرى منهم الإكرام لطلبة العلم والدعاة لأنه يطلب العلم ولأنه يدعو إلى الله عز وجل.
وبعض الناس يقرأ حديث أبي سعيد في الصحيحين: {يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن} ويحملونه على أنه هذا العصر، وتجد بعضهم يذهب من بيته إلى المسجد، ولا يشارك في الدعوة، والتأثير، ولا في معاونة إخوانه، أو في الاجتماع على الحق، بحجة أن العصر مظلم، وأن الواقع أصبح لا يتحمل المخالطة، وهذا خطأ، قال عليه الصلاة والسلام والحديث حسن عند أبي داود وأحمد: {الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم}.
إنك إذا خالطت أوذيت، وتعرضت إلى إهانة واستهزاء وسخرية، ولكن هذه الطريق هي طريق الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وقال لقمان عليه السلام لابنه كما حكى عنه ربنا في كتابه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] ولم يقل: افرح بما أتاك، لأنه يعلم أنه سوف يأتيه إيذاء وسخرية وشماتة، فقال: اصبر على ما أصابك.
والصلاة: جماعة، والجمعة: جماعة، والعيدان: جماعة، والحج: جماعة، والفطر يوم يفطر الناس، والصيام يوم يصوم الناس، والأضحى يوم يضحي الناس، وتعاونوا على البر والتقوى، الإسلام مشاركة ومعاونه، نحن جمعية كبرى، أعضاؤها كل بار على وجه الأرض.
النفع اللازم والمتعدي:
وكثير منا يشتغل بالنفع اللازم، ويظن أنه أنفع من المتعدي، فيقول: انظر هؤلاء الدعاة، شتتوا شملهم وقسوا قلوبهم بالتحرك والتنقل والأسفار، لو جلسوا وأدوا النوافل، وركعتي الضحى وذكروا الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ خير مما طلعت عليه الشمس} ولزموا صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقيام الليل لكان خيراً لهم.
ولا يعلم هذا أن أولئك هم المجاهدون صراحة، وأنهم وقفوا على الثغور، وأنهم الشجا في حلوق المارقين والزنادقة، وأنهم ضربوا منهم كل بنان.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في النفع المتعدي إلى غير صاحبه: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فإنه مكسب عظيم، فإذا هدى الله على يديك رجلاً واحداً وإني أعتبر هذا العمل أفضل من مائة ركعة أو من ألف ركعة؛ لمن قبل الله عز وجل منه وحتى من قبل منه ألف ركعة، فالذي هدى الله به رجلاً أفضل، وهذه طريقته عليه الصلاة والسلام وطريق الخلفاء الراشدين من بعده، والأئمة الكبار.
أما من وجدوا في فترات يستدل بهم بعض الناس كـ داود الطائي وإبراهيم بن أدهم، ويوسف بن أسباط رحمهم الله، من الذين أصلحوا قلوبهم، وأثنت عليهم الأمة، فهم أخيار، لكن لايكون كلامهم منهجاً للأمة، ولا للشباب ولا للجيل.
والغزالي في الإحياء يؤيد العزلة، وقد كان في أول حياته محباً للخلطة في بغداد، وأيدها في كتبه الأولى، فلما صدف إلى العزلة وأحبها أيدها.
وأعرف أن المعتزل عن الناس يشعر بخشية وخشوع ورقة قلب، وأن من يجاهد ويأمر وينهى ربما شعر بقسوة، لكن أجره على الله عز وجل، لأنه واقف بين الصفين، وسنانه يقطر دماً، وهو يحمي ثغور الإسلام، أما هذا فعمل لنفسه فقط.
والنظر إلى المجتمع بنظرة التشاؤم يورث الورع البارد من مخالطة الناس.
وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام قال: {من قال: هلك الناس فهو أهلَكَهم} وفي لفظ {أهلكُهُم} فإن كان أَهْلكُهُم: فهو أشدهم هلاكاً لأنه أعجب بنفسه أو أهلكَهم: -فعل ماض- أي: أنه بفعله هذا تسبب في إهلاك الأمة وإغراقها؛ لأنه أشاع الفاحشة أو التهاون في صفوف الأمة.
ويصاب بعض الناس الذين يفرون من الواقع بشيء من تنزيه النفس، فيقول أحدهم: أعوذ بالله! واقع مظلم! ما دخلت إلى الأسواق ولا رأيت فيها من المنكرات؟! نسأل الله العافية والسلامة، نقول له: ألا تشارك معنا في الأمر بالمعروف؟ فيقول: أعوذ بالله! تقول له: ألا تدعو؟ فيقول: أعوذ بالله! نسأل الله العافية، أنت الواقع في المصيبة، إن الذي ينزل إلى السوق ويأمر وينهى ويتكلم ويعظ ويجاهد أفضل منك بدرجات عند الله سبحانه وتعالى.