لمَّا أراد الله أن يرفع ذكر الإمام أحمد قبضه إليه في يوم من أسعد الأيام، مرض تسعة أيام، ومحص الله ما بقي عليه من خطايا وذنوب وسيئات؛ لا يخلو منها البشر في هذه التسعة الأيام، وفي اليوم الأخير منها عرف الخليفة أنه مريض؛ فأمر الناس بزيارته، فانقلبت بغداد العاصمة؛ عاصمة الدنيا، بغداد، صاحبة المليونين من البشر، انقلبت ظهراً لبطن متجهة في طوابير وفي كتائب إلى بيت الإمام أحمد لتزوره في اليوم الأخير.
قال أبناؤه: والله لقد أغلقت المتاجر حول بيوتنا، وتوقف الباعة، وتوقف حرس المتوكل من ممر الثكنات إلى بيتنا من كثرة الناس، فرفض الإمام أحمد أن يدخل عليه إلا الصبيان والمساكين، فأدخلوا الأطفال عليه، فأخذ يبكي ويقبلهم، ويمسح على رءوسهم، ويدعو لهم، ثم أدخل عليه الفقراء فأخذ ينظر إليهم، ويقول: اصبروا فإنها أيامٌ قلائل، لباس دون لباس، وطعامٌ دون طعام، حتى نلقى الله.
وفي سكرات الموت التفت إلى طرف غرفته، وقال: لا! بعدُ، لا! بعدُ، لا! بعدُ فقالوا: مالك؟! قال: تصور لي الشيطان، ورأيته يعض على إصبعه، ويقول: فتني يا أحمد، فتني يا أحمد! أي: هربت مني، فقد فتنت الناس إلا أنت، فيقول الإمام أحمد: لا! بعدُ، أي: انتظر إني أخاف على نفسي.
فقبضه الله عز وجل، واستودع أبناءه، وأوصاهم بوصية إبراهيم عليه السلام لأبنائه؛ ألا يشركوا بالله شيئاً، وأن يقيموا فرائض الإسلام، وأن يتخلقوا بالخلق الحسن.
أتدرون ماذا كان آخر كلماته؟!
قال: اللهم اعف عمن ظلمني، اللهم اعف عمن شتمني، اللهم سامح من ضربني، اللهم سامح من سجنني إلا صاحب بدعة يكيد بها دينك فلا تسامحه أي: عدو الإسلام لا تسامحه، أما عدوي لنفسي فسامحه.
وقبضت روحه رضي الله عنه وأرضاه، فماذا كان؟
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ فزعت منه إلى آمالي الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها القبر