كثير من الشباب يبنون آراءهم وأحكامهم على مسائل منها: أن بعض الناس يخالط وسطاً ملتزماً، يعني: بيتاً ملتزماً وإخواناً ملتزمين، والكلية التي يدرس فيها فيها التزام، فإذا تحدثت له عن الفساد اندفع يحدثك بقوله: الناس كلهم ملتزمون، ومتجهون إلى الله، والناس ليس فيهم عاصٍ، والناس أقبلت والحمد لله ألوف مؤلفة، ونسي النظر بالعين الأخرى، فهذا عكس الأول، نسي أن هناك نقصاً في المجتمع، وأن من علامات النقص -مثلاً- المحاضرات، صحيح يحضرها إلى عشرة آلف بل أكثر، في المدن خاصة، لكن المباراة قد يحضرها أكثر من ستين ألفاً، فما معنى هذا؟
هل معنى ذلك أن المباراة أنفع للأمة، وأنفع للإسلام من المحاضرات؟ أم أن أولئك الستين يريدون الأجر من حضورهم إلى المدرجات، ويريدون المثوبة من الله سبحانه وتعالى؟! أم يحتسبون خطاهم؟! لا.
من سنن الله عز وجل أن يكون الكثير هكذا: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] ماحالهم.
عمر رضي الله عنه نزل إلى السوق فسمع بدوياً أعرابياً يقول: اللهم اجعلني من عبادك القليل، فلهزه عمر بالدرة، وقد كانت درته في يده دائماً يؤدب بها، ويخرج بها الشياطين من الرءوس، فقال: مه؟ أي: ما هذا الدعاء؟ عمر رجل عبقري، جعله الله من هذه الأمة، حتى يقول حافظ إبراهيم:
قل للملوك تنحو عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
يقول: إن عمر يأخذ هذه الدنيا في ساعة ويسلمها في ساعة، أخذ ملك كسرى وقيصر في ساعة، وسلم ذخائرها وكنوزها للفقراء في ساعة، برده فيه أربعة عشر رقعة يخطب به الجمعة، وأمعاؤه تقرقر وتصيح من الجوع، فيقول: [[قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].
محمود غنيم شاعر وادي النيل يقول لـ عمر يحيه:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
من نحن لولا الله ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ كانت أنوفنا في التراب، ادعوا نجوم الفن ليرفعوا رءوسنا أمام العالم! من الذي فتح لنا أسبانيا، أو شمال أفريقيا، أو طاشقند وتركستان؟ ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، حتى كان يحكم هارون الرشيد وينظر من شرفات القصر ويتحدى السحابة، ويقول: أمطري حيث شئتِ فإن خراجك سوف يأتيني.
فالمقصود أن عمر قال: ما هذا الدعاء؟
قال الأعرابي: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فقلت: اللهم اجعلني من القليل.
قال: كل الناس أفقه منك يا عمر.
فلا يتصور متصور أن الناس كلهم سوف يقبلون على الهداية، فإن من سنن الله عز وجل الكونية أنه هدى من شاء وأضل من شاء، وفي كل مكان تجد وقت النداء من يستمع الأغنية ومن يذهب إلى المسجد، من يجلس في المقهى ومن يجلس في المحاضرة، من يحب القرآن ومن يحب المجلة، من يرغب في السواك ومن يرغب في السيجارة، إنها سنة كونية: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].