نزلنا هناك، واستقبلنا نخبة من الصالحين، وكان الثلج يغطي الأرض، أما جمال الطبيعة فسبحان من أعطاهم جنتهم في الحياة الدنيا! نهر في العاصمة واشنطن يأخذ الجِمال، لو كان أمامه جمل لشدَّه ورماه، الماء عندهم شيءٌ عُجاب، الحدائق الغَنَّاء، الشجر الذي يطاول ناطحات السحاب أمر عجيب، وطبيعة خلاَّبة، وطيور جميلة، ولكنهم عتوا عن منهج الله، أعرضوا تماماً عن الله، ألْحَدوا في شرع الله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
نزلنا في فندق ريجيسون في واشنطن، وكان من التعليمات التي يعرفها من يذهب إلى هناك: ألا تفتح باب غرفة الفندق إذا دخلْتَ حتى تعرف من الناظور من الذي طرق عليك، فهم في إرهاب وخوف، قد يدخل عليك رجل بخنجر فيقتلك ويأخذ ما معك، أو قد يدخل عليك من يطلق عليك الرصاص، ثم لا محكمة ولا قضاء، ولا شيء، لا تعرفه ولا يعرفك، فكلما طرق طارق فزع الواحد منا، فيَنْظُر أحدنا في الناظور، ويقول: مَن؟ وماذا تريد؟ ولغتنا رديئة، فما عندنا لغة، والذي يذهب بلا لغة إلى هناك يكون أبكم أصمَّ، حتى أنني طلبت مرة من الفندق أن أتحدث إلى البلاد هنا تليفونياًً، فكانت تكلمني امرأة وتسألني وتقول لي: رضي الله عنهless! Number Your?، أو كلاماً مثل هذا، أي: من فضلك! أعطني رقم غرفتك، فأنا ما عرفتُ رقم الغرفة، فقط ضربتُ التليفون عليها في وجهها، مثل بعض الناس إذا جاءوا عندنا وهو لا يعرف لغتنا يقول: بطنك يؤلمني، أو رأسي يؤلمك، فلا يعرف التعبير فيأتي بالضمائر، فلذلك ما حصلت على مكالمة حتى أتى أحد الإخوة من السفارة، فأعطانا التليفون لنتحدث.
خرجنا من هناك ما يقارب ثلاثة أيام ما سمعنا أذاناً، ولا قرآناً، ولا توجُّهاً، وما سمعنا تسبيحاً، ولا ذكراً لله، أمة كالغنم، كالبهائم، وهم من أشد الناس عملاً، ينطلقون الساعة السابعة ولا يعودون إلا مع صلاة المغرب، في عمل كالآلة، الأمريكي مبرمج كالثور، يذهب من بيته إلى عمله ثم يعود في المساء، والعجيب أن أساتذة الجامعات عندهم لا يعرف أحدهم الولاية التي بجانبه، ولا حدودها ولا أخبارها، هذا يقين، ولكن دخلنا المركز الإسلامي في واشنطن فسمعنا (الله أكبر) فكأن قلوبنا عادت وحييت بعدما ماتت:
الله أكبر هل أذناي تسمعها إن كان ذلك يا فوزي ويا طربي
فهو من أحسن ما يكون، وصلينا مع شباب دُعاة كالنجوم، شباب من بلادنا، ومن البلاد العربية والإسلامية، يحملون (لا إله إلا الله) الليبي بجانب التونسي، والمغربي بجانب السوداني، والعراقي بجانب الكويتي، والسعودي بجانب المصري، ما بينهم ضغائن ولا أحقاد، كلهم يعتزون بدين الله، وسوف يأتي الحديث عن هذا في بيان الشباب.
بعدها ذهبنا لحضور المؤتمر في كلورادو بـ دنفر، وله أخطاء وأعاجيب، وحضره ثلة من الدعاة الأخيار، وكانت قاصمة الظهر التي شلَّت المؤتمر يوماً من الأيام: مقتل الدكتور عبد الله عزام، فأتى الخبرُ أهلَ المؤتمر بواسطة إذاعة مقوية تتبع إذاعة هيئة الإذاعة البريطانية في أمريكا، حيث أخبرت بقتل عبد الله عزام، وأتى رئيس المؤتمر: الشيخ محمود مراد، ببيان رهيب كأنه يتقطع دماً، ثم قام أمام المؤتمر فقرأ البيان بعد صلاة المغرب، فبكى وأبكى حتى سمعنا بكاء النساء المسلمات من وراء الحجاب، وهذه علامة القبول إن شاء الله، وأبلغ برقية للشيخ سياف من ذاكم المؤتمر.