مشاهد حسن الخلق مع المخلوقين

حسن الخلق يكون مع الخلق ومع الحق، أما حسن الخلق مع الخلق: فلك فيهم أحد عشر مشهداً مما يصيبك من أذى الخلق: أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي الأول: إذا اعتدى عليه رجل، أو سبه، أو ظلمه، أو شتمه يشهد مشهد القدر، يعني: ينظر إلى ظلم غيره له كما ينظر إلى وقوع المطر ووقوع البرد ووقوع ألم الجراح عليه، فيقول: هذا من قضاء الله عز وجل علي وعليه، ومن قدر الله في وفيه، فينظر إلى القدر في حق نفسه لا في حق ربه.

والدليل على ذلك: أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً بيده: خادماً ولا أمة ولا دابة إلا أن يجاهد في سبيل الله).

وقالت السيدة عائشة: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلا في حق من حقوق الله عز وجل، فلا يقوم لغضبه شيء حتى ينتقم لربه)، أما في حق نفسه فيسامح.

وكما قال سيدنا أنس رضي الله عنه: (والله ما لمست ديباجاً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شممت عطراً أطيب من طيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟ وكان إذا عاتبني بعض أهله قال: دعوه، فلو قضي شيء لكان).

إذاً: تفنى عن حق نفسك، وتنظر إلى مشهد القدر في حق غيرك.

المشهد الثاني: مشهد الصبر، وأنت تعلم جزاء وثواب الصابرين، وقد قال فيه صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كضم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه أتى الله به على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين، فيزوجه منها ما يشاء).

وحديث آخر قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كضم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة).

وسيدنا سلمان الفارس أتى إليه رجل فشتمه فقال: يا هذا! إن ثقلت موازيني فأنا خير مما تقول، وإن خفت موازيني فأنا شر مما تقول.

وشتم رجل الربيع بن خثيم تلميذ سيدنا عبد الله بن مسعود، الذي قال فيه سيدنا عبد الله بن مسعود: أما والله لو رآك محمد صلى الله عليه وسلم يا ربيع لفرح بك.

وكان إذا رآه يقول: وبشر المخبتين، جلس خمس عشرة سنة في بيت سيدنا عبد الله بن مسعود والجارية التي على الباب لا تعرف أنه صحيح البصر، وكانت تقول: يا سيدي! صاحبك الأعمى الربيع بن خثيم أتى، فكانت تظن أنه أعمى من كثرة غض بصره إلى الأرض.

والربيع بن خثيم أتى إليه رجل فشتمه فقال له: يا هذا! إن دون الجنة عقبة إن جزتها فأنا خير مما تقول، وإن لم أجتزها فأنا شر مما تقول.

وأتى رجل إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فشتمه فأنصفه وصبر سيدنا عمر بن عبد العزيز، ثم قال له: أردت اليوم أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً، هذا والله لن يكون.

وقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وثواب الصبر كالماء المنهمر كما قال ميمون بن مهران: لا حد له.

المشهد الثالث: مشهد العفو والحلم والصفح، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما ازداد عبد بعفو إلا عزاً).

ليس أحد يعفو إلا ويزيده الله رفعة في الدنيا والآخرة، والأمثلة على ذلك ما يلي: السيدة أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب أتت مولاة لها إلى سيدنا عمر وقالت له: إن صفية تفضل السبت على الجمعة، وتصل قوماً من اليهود، فسيدنا عمر أرسل إلى السيدة صفية يسألها فقالت: والله ما أحب السبت بعد أن أبدلني الله خيراً منه الجمعة، أما صلتي لليهود: فإن لي فيهم رحماً، ثم أتت إلى مولاتها فقالت: يا بنيتي! ما حملك على أن تقولي ما قلت؟ اذهبي فأنت حرة لوجه الله.

وسيدنا عبد الله بن عون كان له جمل يحمل عليه ويحج عليه وكان به معجباً، فأتى مولى من مواليه فلطم الجمل فأسال عينه، فقال الناس: إن كان ثأر من عبد الله بن عون فسيكون اليوم، فلما أتى إليه قال: يا بني! ألا غير الوجه يرحمك الله؟ اذهب فأنت حر لوجه الله.

وسيدنا الأحنف بن قيس يضرب به المثل في الحلم، سيد أهل المشرق كما قال فيه سيدنا عمر بن الخطاب، أتى إليه رجل فقال: علمني الحلم، قال: أن تصبر على الذل يا بني! وأتى إليه رجل فشتمه، ثم شتمه مرة ثانية وهو ساكت، ثم شتمه للمرة الثالثة وهو ساكت، فبكى الرجل الذي كان يشتم وقال: والله ما يمنعك من الرد علي إلا هواني عليك، يعني: أنت تستخف بي.

وأتى إليه رجل فشتمه في الطريق، حتى أوصله إلى خيام أهله فقال: يا هذا! إن كان عندك شيء فأت به، فقد أتيت إلى مضارب قومي ولا آمن عليك سفهاء الحي أن يؤذوك.

وقالوا للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا سيد أهل الوبر).

وقد بلغ من حلمه بينما هو جالس مع رضيع له يداعبه إذ أتت مولاة له بلحم مشوي على حديد محمى فوقع على الولد فقتله، فارتاعت الجارية فقال: لا روع عليك، أنت حرة لوجه الله.

وبينما هو في حبوته - يعني: جامع يديه إلى ركبتيه- إذ أتوا بابن أخ له قد قادوه مكتوف الأيدي وقد قتل ابنه، قالوا: فوالله ما حل حبوته ولا تغير وجهه، وإنما قال: أذعرتم الفتى، ثم قال: يا ابن أخي! أنقصت عددك، وأثمت بربك، وأسأت إلى قومك، وقتلت نفسك بيدك، ثم قال: حلوه، ثم قال: اذهبوا إلى أم ولدي فادفعوا الدية لها فإنها غريبة.

يقول مثل ما قال سيدنا يوسف: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92].

وهذا نبي الله يوسف عليه السلام حتى مجرد تذكيرهم بالإساءة وما عملوه فيه لما جمع الله بينه وبين إخوته وبين أبيه، قال يوسف: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ولم يقل: إذ أخرجني من الجب؛ لأن إخوته كانوا جالسين، فلم يذكرهم بغدراتهم به.

المشهد الرابع: مشهد الرضا، كما يقول الشاعر: من أجلك جعلت خدي أرضا للشامت والحسود حتى ترضى وهو أن ترضى بقضاء الله عز وجل عليك، فالرضا بعذابه فيك عذب.

سيدنا عمر بن عبد العزيز علم من سمه من مواليه في اليوم الذي سمه، ثم قال رضي الله عنه: والله لو أعلم أن شفائي في مد أصبعي ما مددتها، أحبه إلى الله أحبه إلي.

عذابه فيك عذب وبعده فيك قرب وأنت عندي كروحي بل أنت منها أحب حسبي من الحب أني لما تحب أحب المشهد الخامس: مشهد الإحسان، وهو أعلى درجة من مشهد الرضا، وهو أن الرجل إذا أساء إليك تحسن إليه، فكما قال العلماء: اقتضاء الثواب الهبة، فالرجل إذا وهبك شيئاً فأنت تجازيه وتحسن إليه، إذاً: من ظلمك تحسن إليه.

وهناك أمثلة: فسيدنا أبو بكر الصديق كان ينفق على مسطح بن أثاثة، فلما قال في عائشة ما قال وتكلم في عرضها وهي زوج رسول الله، حلف أبو بكر الصديق ألا ينفق عليه، فلما نزلت قوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] عاد أبو بكر إلى النفقة على مسطح.

وإبراهيم بن أدهم كان في المقابر فمر عليه جندي وقال له: يا رجل! أين العمران؟ فأشار إلى المقابر، فعلاه بالسوط فشق رأسه، ثم أراد أن يدخله المدينة من أجل أن يراه الناس، لأنه يقول له: أين العمران؟ فيشير إلى المقابر، فتلقاه أهل المدينة بالبشاشة والاحترام؛ لأنهم يعلمون مكانة إبراهيم بن أدهم وجعلوا يقبلون رأسه، فلما نظر الجندي إلى الناس وهم يقبلونه أراد أن يقبل يده ورجله، فقال: لا يا بني، والله ما علوتني بالسوط حتى دعوت الله لك بالجنة؛ لأني أعلم أن ثواب صبري الجنة، فما أردت أن يكون نصيبي منك الجنة ونصيبك مني الأذى.

وقال الفضيل بن عياض: من أفضل من قابلتهم رجل كان في الحج، وبين هو في الطواف إذ سرق ماله فظل يبكي إلى قبيل الغروب، فقلت له: أمن أجل المال تبكي؟ قال: لا والله، وإنما تذكرت هذا الذي سرقني وضعف حجته بين يدي الله عز وجل، فبكيت رحمة له.

والربيع بن خثيم اشترى فرساً بثلاثين ألف درهم وأراد أن يغزو عليها، وعندما انصرف الغلام قام الربيع ليصلي، فأتى السارق فسرق فرس الربيع، فلما أتى الغلام قال: يا ربيع! أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها؟ قال: ما كان شغل يشغلني عن الصلاة، ثم رفع يده إلى السماء، وقال: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده وإن كان فقيراً فاغنه.

فهذه الأخلاق موجودة في عوام المسلمين، وفي أعضاء الحركات الإسلامية غير موجودة، وأقسم بالله على هذا إلا النادر، وبهم يرفع البلاء عن أهل الأرض.

فمشهد الإحسان: أن تحسن إلى من أساء إليك وهو في موقف ذلة، وجاء يعتذر إليك، فالجزاء من جنس العمل، وستكون يوم القيامة في موقف ذلة وتحتاج إلى ربك ليحسن إليك، والجزاء من جنس العمل، ومن لا يرحم لا يرحم.

المشهد السادس: مشهد سلامة القلب وبرد القلب، وهو أن تنام وليس في قلبك غل لأحد من المسلمين، فتنام س

طور بواسطة نورين ميديا © 2015