الشعيرة الأولى: القيام.
وقيام الليل هو شعار الصالحين ودأب المتقين: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، تتباعد جنوبهم عن أمكان نومهم، هل يشاهدون أفلاماً؟ أو يسهرون على سهرة آخر الليل؟ أو يسهرون على غناء هابط؟ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] لماذا؟ {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، خوفاً من ناره، وطمعاً في جنته.
ولذلك -إخوتي الكرام- انظروا إلى حال نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم كيف كان ليله، هل كليل البطالين والسفهاء الذين يدعون الأمة إلى النار على سهرات هابطة، انظروا إلى حال نبيكم، تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: (تفقدت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على فراشي فلم أجد النبي صلى الله عليه وسلم بجواري، فقمت أبحث عنه في الحجرة المظلمة فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام قد ترك الفراش وقام يصلي لربه، وقد ابتلت الأرض من دموعه وهو يقول ويناجي ربه: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).
وقام يصلي بالليل فجاء حذيفة فوقف بجواره، يقول: (فقرأ النبي سورة البقرة، فقلت: لعله يركع، فقرأ النساء كاملة، فقلت: لعله يركع، فقرأ آل عمران كاملة) كل ذلك في الركعة الأولى يا عبد الله، والحبيب قائم بين يدي ربه، ولذلك انظروا إلى حال سلفنا وإلى حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان عمر بن الخطاب يقوم بالليل يصلي لله والناس نيام، وأهل التوحيد لا يعرفون النوم بالليل إلا القليل؛ لأنهم ينفردون بربهم سبحانه، ويناجونه ويدعونه آناء الليل وأطراف النهار، وكان يقرأ في سورة يوسف -يحبها- حتى إذا وصل إلى قول الله: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] علا صوته بالبكاء حتى يسمع لبكائه صوت من خلف جدران بيته، حتى أقامت الدموع خطين أسودين تحت عينيه من كثرة البكاء من خشية الله، فهذا عمر.
أما عثمان فحدث عنه ولا حرج، قال ابن عمر في تفسير قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، قال: نزلت في عثمان.
وفي اليوم الذي مات فيه عثمان كان يقرأ القرآن من مصحفه، فلما طعنوه سال الدم من جسده على مصحفه، فبكت الزوجة وهي تقول: قتلتموه، وإنه ليصلي الليل بالقرآن كاملاً.
رجال كانوا رهباناً بالليل لله رب العالمين، فأول شعيرة ينبغي أن نؤكد عليها في هذا الشهر الكريم شعيرة قيام الليل.
وفي صحيح البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه التراويح في أول ليلة من رمضان، وفي الليلة الثانية كثر الناس -لينال الجميع شرف الصلاة خلف النبي عليه الصلاة والسلام- فصلى بهم، وفي الليلة الثالثة ما خرج من حجرته صلى الله عليه وسلم إلا في الفجر، فقال لهم: لم يخف علي مكانكم -يعني: أعلم أنكم مكثتم في المسجد من بعد العشاء- ولكني خشيت أن تفرض عليكم)، إذاً: العلة التي منعت النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج حتى لا تفرض صلاة التراويح، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء زمن عمر رضي الله عنه اتخذ أبي بن كعب رضي الله عنه للرجال إماماً، فكان يصلي بهم قيام رمضان.
والناس فريقان: فريق يدعو إلى النار بمسلسلاته وبسهراته وبلقاءاته الهابطة، وفريق يدعو إلى الجنة بالصلاة والقيام، فكن مع الدعاة إلى الجنة، ولا تستجب لأولئك الذين قال ربنا في حقهم: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221].
أحبتي الكرام! وأول ما وطئت قدم النبي محمد صلى الله عليه وسلم المدينة -كما قال ابن سلام - قال: (أيها الناس! اطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام).
وفي أول بعثته قال له ربه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:1 - 5]، قال ابن عمر: كان الصحابة بعد صلاة الفجر يقصون على النبي صلى الله عليه وسلم ما رأوا في نومهم من رؤى فيفسر ل