الدليل الثاني: إحياء الأرض بعد موتها، وهذا يسميه العلماء القياس العقلي، والقياس عند علمائنا من مصادر التشريع المعتبرة، والنبي عليه الصلاة والسلام استخدم القياس في أكثر من موضع، فلما جاءه رجل وقال: (يا رسول الله! إن امرأتي ولدت ولداً أسود)، فالرجل كان أبيض والزوجة بيضاء وولدهما أسود، وقد أراد الرجل أن يلاعن الزوجة وكأنها انحرفت، ومن شابه أباه فما ظلم، أي: ما ظلم أمه، واليوم يعلمون أبناءنا في الدراسة الثانوية أنه إذا جامع الرجل زوجته فهناك احتمالات للإنجاب، ونقول لهم: ليس هناك حتمية علمية على الله عز وجل، بل {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، ولو أخذنا هذه المسألة وقلنا لهم: أعطونا احتمالات الإنجاب فسيستبعدون السواد تماماً، وأما في الشرع فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل: (أعندك إبل؟ قال: نعم، قال: ما لونها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق -يعني: أفيها واحد يخالف لونه لون سائرها؟ - قال: نعم يا رسول الله! قال: ما تقول فيه؟ قال: لعله نزعه عرق -وكما يقولون: العرق يمد إلى سابع جد- فقال: فلعل ولدك نزعه عرق).
فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا يقرب للرجل هذا المعنى بالقياس، وربنا عز وجل أبطل قضية أن عيسى ابن الله بالقياس، فقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].
أي: فإن كنتم تتعجبون من أن عيسى خلق من أم بلا أب وبسبب ذلك نسبتموه إلى الله وقلتم: إنه ابن الله؛ فخلق آدم أشد في الإعجاز من خلق عيسى، فهو بلا أب ولا أم، فأيهما أولى بالإعجاز إذاً؟ وقد ناظر رجل من أهل السنة رجلاً من أهل الظاهر ينكر القياس، فقال له: إن الله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فما تقول فيمن يعمل نصف مثقال ذرة؟ فالقرآن ليس فيه نصف، وإنما فيه ذرة، وبدون قياس لن يستطيع الإجابة، فقال له الرجل: أبلعني ريقي حتى أستطيع الإجابة، قال: أبلعتك دجلة، أي: اشرب نهر دجلة، وليس الريق فقط، قال: أمهلني ساعة، قال: أمهلتك إلى قيام الساعة، فلن تستطيع أن تجيب إلا إذا استخدمت القياس، وهذا قياس الأولى.
وقد استخدم قياس الأولى هرقل الداهية لما سأل أبا سفيان -كما في صحيح البخاري -: أتتهمونه بالكذب؟ قال: لا، فقال هرقل مستنبطاً بقياس الأولى: ما كان ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله، فهذا يستحيل.
وهذا هو قياس الأولى.
فالدليل الثاني في القرآن: القياس العقلي، مثل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39]، وفي الحديث: أن الله عز وجل يرسل ماءً على الأرض قبل البعث فتنبت الأجساد من القبور كما ينبت النبات، وهذا أيضاً للتقريب إلى العقول.
وقال تعالى في سورة الأعراف: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:57]، أي: كما يخرج النبات من الأرض فكذلك يخرج العباد من قبورهم، وبعثهم ليس بكثير على رب الأرض والسماء.