الأولى: أن الله عز وجل آتاه نعمة الفهم في العلم، وأعتقد أن سوء الفهم هو الذي مزق الأمة إلى فرق وجماعات، فالخوارج كفروا مرتكب المعصية بكبيرته من سوء فهمهم، والمرجئة قالوا: لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة، فنزعوا العمل من مسمى الإيمان؛ لسوء فهمهم، والمعتزلة قالوا عن مرتكب الكبيرة: إنه في منزلة بين المنزلتين في الدنيا وفي الآخرة ومخلد في النار؛ لسوء فهمهم، والجبرية قالوا: إن العبد لا اختيار له، إنما هو كالريشة في مهب الهواء لا اختيار له وهو مسير، فلماذا يحاسبه الله؟ لسوء فهمهم، والروافض الشيعة الأشرار وقعوا في أصحاب سيد البشر عليه الصلاة والسلام؛ لسوء فهمهم، ولذا فأقول: سوء الفهم مشكلة الأمة؛ ولذلك الإمام البخاري يضع في كتاب العلم باباً يحمل هذا العنوان: باب الفهم في العلم، وليس حفظ النص هو المشكلة، المشكلة أن تفهم ما في النص، والأفهام تختلف؛ ولذلك انظر أخي الكريم! إلى تلك النعمة، يقول ربنا في حقها: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78 - 79]، ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان إذا سئل عن تفسير آية يقرأ لها مائة تفسير، ثم يذهب إلى أحد المساجد ويسجد بين يدي ربه ويقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني! ويا مفهم سليمان فهمني! فالفهم رزق وعطاء وحكمة: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269].
القصة كما جاءت في كتب التفاسير: أن رجلاً ترك غنمه فنزلت في زرع رجل بالليل فأفسدت عليه زرعه فتحاكما إلى داود عليه السلام، فقدر داود ما أتلفت بقيمة الغنم، وحكم بالغنم لصاحب الزرع تعويضاً له عما أتلفت، لكن عندما خرجا من عنده لقيهما سليمان فقال لهما: بم قضى بينكما أبي؟ قالا: بكذا، فعاد بهما وقال لأبيه: إني أرى فيها رأياً، قال: ما تقول يا بني؟! قال: أرى أن ندفع الزرع لصاحب الغنم، وأن ندفع الغنم لصاحب الزرع، أما صاحب الزرع فيأخذ الغنم ينتفع بأصوافها وألبانها وسمونها، وأما صاحب الغنم فيأخذ الزرع ويقوم بزراعته ورعايته حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحبها ويعود الزرع إلى صاحبه، فقال ربنا سبحانه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79].
وابن عباس على حداثة سنه يجلسه عمر مع كبار أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ممن شهد بدراً، فيقرأ على مسامعهم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ثم يسألهم عما فهموا من السورة، فإذا بـ ابن عباس يفهم غير ما فهم الجميع، يقول: يا عمر! أرى أن هذه السورة نعي من الله عز وجل للحبيب محمد، أي: إشارة إلى اقتراب أجله ودنو عمره ومفارقته للحياة، من أين فهم؟ من قول الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر:98]، والاستغفار عادة يكون في ختام الشيء، فختام المجالس الاستغفار، وختام الصلاة الاستغفار، فإن الله عز وجل قد أمر نبيه بالاستغفار، إذاً: حياة النبي أوشكت على النهاية، وهكذا فهم ابن عباس من النص ما لم يفهمه الكبار.
روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنها قال: (خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم) -والإمام البخاري يأتي بهذا الحديث كعادته في أكثر من موضع، ففي موضع في كتاب العلم يقول: باب الفهم في العلم، ثم يعود فيقول: باب الإمام يطرح المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من علم- فقال: (إن من الشجر لشجرة لا يسقط ورقها، مثلها مثل المؤمن، حدثوني ما هي؟ يقول ابن عمر: فوقع الناس في شجر البوادي)، والحديث في كتاب البيوع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهو يأكل جماراً)، والجمار: قلب النخلة.
يقول ابن حجر: وفيه جواز بيعه؛ لأن ما جاز أكله يجوز بيعه، ومن ثم أخرجه البخاري في كتاب البيوع، وهذا هو فقه البخاري في تبويبه وتراجمه كما قال العلماء، يسأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم الإجابة.
قال: (فوقع الصحابة في شجر البوادي فحدثتني نفسي أنها النخلة، ولكن منعني الحياء أن أتحدث في حضور أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام)، أدب يا عباد الله! صغير يوقر الكبير، رغم أنه يعلم، قال: كيف أتحدث في وجود أبي بكر وعمر وأبي هريرة وكبار أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ وقد دار في نفسي أنها النخلة ومنعني الحياء.
والبخاري لف