وعند وصول إبراهيم وزوجه إلى بيت الله عز وجل وجده مكاناً قحلاً لا زرع فيه ولا نبات، ولا ماء ولا طائر، فوضع إبراهيم إسماعيل وأمه في هذا المكان القحل وتركهما، فنادته هاجر يا إبراهيم! فما التفت إليها، لكنه ما ضيع زوجته وولده، فقد وضع لهما إناء فيه ماء، وجراباً فيه تمر، وهذا يشير إلى أن الإنفاق على الزوج والولد مسئولية الزوج، والله هو الذي أمر بذلك، لكن للأسف الشديد تجد بعض الرجال يغيب سنوات ولا يدري من أين تنفق الزوجة والأولاد؟! وإنا لله وإنا إليه راجعون، أو يعمل نفسه -أي: الزوج- أنه ليس بفاهم، فيأتي في الظهر ويجد طعام الوجبة تساوي مائتي جنيه ومرتبه كله مائة وعشرون جنيهاً، واليوم الثاني كذلك، بل والشهر كله، ولا يسأل عن مصدر الدخل؟! ولذلك هناك أمور لا ينبغي للزوج أن يتغاضى عنها، كالسؤال عن مصدر الدخل والإنفاق وغيرها من الأمور، وظلت هاجر تنادي على إبراهيم ولا يجيب، حتى وصلت إلى مكان اسمه (كداء)، وهو بعد مكة بقليل، فسألته فقالت: يا إبراهيم أربك أمرك بهذا؟ فلا يمكن أن تتركنا على هذه الطريقة إلا إذا كان ربك أمرك بهذا، فالتفت إليها قائلاً: نعم، فقالت المرأة المؤمنة التقية المحتسبة: إذاً فلن يضيعنا الله، ولننظر لو أن أحدنا فعل هذا مع زوجته لاتهمته بالجنون؛ لأنه ليس عندها ثقة ويقين في الله، بينما هذه امرأة تعلمنا أن نثق في وعد الله، وأن نثق في نصر الله، ونوقن أنه كلما ضاقت الأمور سيأتي الفرج بإذن الله سبحانه، والله حافظ دينه مهما تآمر المتآمرون {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وكلما ضاقت فرجت، وأن بعد العسر يسراً، وأن بعد ظلام الليل فجراً، وبعد ألم المخاض وضعاً، فلا تحزن فإن النصر قادم لا محالة، لأنه دين رب العالمين، فهو الذي يحفظه، وهو الذي يؤيده، وهو القادر سبحانه وتعالى.
ولما قال ذلك إبراهيم سلمت الأمر إلى ربها ثقة ويقيناً به عز وجل، ولما ذهب إبراهيم من عندها واختفى عنها وعن ولدها دعا ربه -وهذا من حكمته عليه الصلاة السلام- حتى لا تصاب بقلق واضطراب، فرفع يديه قائلا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، دعا إبراهيم ربه ثم انصرف إلى أرض الشام، لكنه ترك هاجر المحتسبة الصابرة، فنفد الماء، ونفد التمر، وانقطع الغذاء، وجف صدرها عن اللبن، وما وجدت لبناً لإرضاعه، ويوماً بعد يوم وإسماعيل يتلوى على بطنه وظهره من شدة العطش وألم الجوع، والأم لا تجد شيئاً، فتقوم بأخذ الأسباب، فتتركه وتصعد إلى أعلى جبل الصفا؛ لعلها تحس من أحد أو تجد أحداً، ثم تنزل إلى بطن الوادي تلك المنطقة المحصورة بين علمين أخضرين الآن، ثم تهرول سريعاً إلى آخر الصفا لعلها تجد أحداً، وهي بعد كل شوط تعود إلى ولدها فتنظر في حاله، وللأسف الشديد نجد اليوم بعض الآباء والأمهات يتركون الأبناء سنوات عديدة لا يعرفون هل هم أحياء أم أموات؟! وكأنهم ما أنجبوا ولداً، والولد أمانة لابد أن تطمئن عليه في كل يوم وليلة، لذلك صدق من قال: أرضعوا الأطفال في المهد الحرام علموهم فحشهم قبل الكلام هدهدوهم بغناء بفسوق فإذا شبوا فماذا يصنعون؟ فأول أمر نعلمه للأبناء الصغار: يا ولد سب عمك، وابصق في وجه جدك، الله أكبر! ولا نعلمه التوحيد، ولا نأخذ بيده إلى الفقه، ولا نعلمه الأذكار، (علموا أولادكم الصلاة لسبع)، (يا غلام احفظ الله يحفظك)، غلام لم يبلغ الحلم، ومع ذلك يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم العقيدة الصحيحة والسليمة.
ولم تيأس هاجر عليها السلام، بل أخذت بالأسباب، وما تركت السعي بعد شوطين أو ثلاثة، بل قطعت سبعة أشواط من الصفا إلى المروة، لعلها تجد فرجاً، ولعلها تجد مخرجاً، فإذا بصوت ينادي فقالت لنفسها: صه، أي: أنصتي فهناك صوت، فإذا بجبريل يأتيها في صورة حسنة فقال: من أنت؟ قالت: أنا أم ولد إبراهيم، تفتخر بزوجها، فقال لها: كيف ترككم هنا؟ ولمن وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله، فقال جبريل: لقد وكلكما إلى عظيم، ثم ضرب الأرض بجزء من عقبه أو بطرف جناحه، والشك من الراوي كما جاء في الرواية.
وقد أخبرني أحد الإخوة أنه سمع عالماً يتحدث في الإذاعة ويقول: من قال: إن للملائكة أجنحة فهو كذاب؛ لأن الملائكة ليس لها أجنحة، وإنما هي مجاز، كقول الله سبحانه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]، يشير إلى التواضع، يا عبد الله! أما تتقي الله في دينك، أما علمت أن النبي قال: (رأيت جبريل وله ستمائة جناح)، أما علمت أن جبريل حمل قرى لوط على جزء من جناحه، أما قرأت في قول المفسرين لقول