قال سبحانه: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12]، الصبر: هو حبس النفس على طاعة الله، أو حبس النفس عن معصية الله، أو حبس النفس على أقدار الله المؤلمة، فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: أن تصبر على الطاعة.
الثاني: أو تصبر عن المعصية.
الثالث: أو تصبر على قدر الله.
والأقدار إما أن تكون مؤلمة، وإما أن تكون ملائمة، وفي الصبر على القدر المؤلم الخير الكثير، (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه -أي: بعينيه- فصبر عوضته الجنة)، هذا الجزاء لأنه صبر على قضاء ربه سبحانه.
وبعد غزوة حنين أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم بين أصحابه، ومن الناس من إذا أعطيته رضي، وإن لم يعط يسخط، ويطعن فيك، ويقول: هذا عمل لا يراد به وجه الله عز وجل، فإن أعطيته فأنت نعم الرجل، وإن لم تعطه فأنت بئس الرجل وهكذا.
فأعطى النبي عليه الصلاة والسلام الأقرع بن حابس مائة من الإبل، والأقرع بن حابس كان حديث عهد بكفر، وأعطى من أعطى ومنع من منع؛ لحكمة ولعلة؛ فقال رجل: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! فوصل ذلك إلى سيد البشر عليه الصلاة والسلام، فأمسك بالرجل وقال له: (ويلك! إن لم أعدل فمن يعدل، رحم الله أخي موسى! لقد أوذي بأكثر من ذلك فصبر)، وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69]، فلابد أن تصبر على الطاعة، وتصبر عن المعصية، وتصبر على أقدار الله المؤلمة.
وهكذا تصبر على مجتمعك، فربما إذا كنت ملتزماً يسخر منك الكثير، ويعرضون بك في الكاريكاتيرات، ويعرضون بك في الأفلام والمسلسلات، ويسخرون من الذين آمنوا، ويقولون: أتعرف صاحب اللحية هذا؟ إنه يأخذ بدلاً مادياً بطول اللحية، ثلاثة آلاف جنيه شهرياً للحية، وخمسة آلاف جنيه لتقصير الثياب، وألف جنيه للسواك.
فهؤلاء يا عبد الله لا يتورعون في أن يتمضمضوا بأعراض الموحدين ليل نهار، وكلما نزلت إلى الصلاة سخروا منك، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:29 - 31].
يقول ربنا: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12].
والذي علمنا الصبر في مجال الطاعات والبعد عن المعاصي، والصبر على أقدار الله المؤلمة هو سيد البشر عليه الصلاة والسلام، أرسلت إليه ابنته تقول له: (يا أبت! إن ابني يحتضر الآن، فأريد أن تأتي، فأرسل إليها مع الرسول يقول لها: مرها أن تصبر وأن تحتسب، فحلفت أن يأتي، فجاءها وأخذ الولد على صدره وروحه تقعقع، فسكب الدموع حزناً عليه، فقال له أحد الصحابة: ما هذا يا رسول الله؟! قال: تلك رحمة يجعلها الله في قلب من شاء من عباده).
قال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12]، لم يلبسوا الحرير في الدنيا فلبسوه في الآخرة؛ لأنهم التزموا حدود الله، والتزموا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير، ولا تأكلوا في آنية الذهب والفضة؛ فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة)، فكانوا لا يأكلون في آنية الذهب والفضة، ولا يلبسون الحرير، فكان جزاؤهم: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان:21]، وفي الآية الأخرى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف:31]، ففي الآخرة يحلون من الذهب والفضة، ويلبسون الحرير؛ لأنهم لم يلبسوها لتحريم الله لها، فيا من تلبس دبلة الخطوبة من ذهب أو من فضة، إن كانت من ذهب فهي حرام، وإن كانت من فضة فليست من هدي المسلمين، وإنما هي من هدي أهل الكتاب؛ فالتزم شرع الله سبحانه، لأنهم كانوا يعتقدون أن الدبلة كلما كانت في الإصبع فإنها تتصل بعرق في القلب، ووجودها دليل على الحب، فإذا خلعت الدبلة خلع معها الحب، وهذا كلام لا ينبغي أن يصدقه عاقل، فالإسلام أباح للرجل أن يتزوج من أربع نسوة، فإن تزوج بأربع فأين يلبس الدبل الأربع؟ فهذا تقليد لأهل الكتاب لا ينبغي أن نسير خلفه.