الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
وبعد: أحبتي الكرام! هناك بعض المعاني الهامة جداً التي نريد أن نبينها، منها: أنه في غزوة الأحزاب -كما بينا- كان الذي جمع قوى الشرك هم اليهود، فبعد إجلاء يهود بني النضير من المدينة حقدوا على دولة الإسلام، فانطلقوا يؤلبون الناس على الإسلام والمسلمين، وهذا يشير إلى أن اليهود هم خلف كل فساد يقع على الأرض، ولذلك يقول ربنا تبارك وتعالى في وصفهم: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]، ويقول سبحانه: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وقال ربنا سبحانه أيضاً في وصفهم: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109].
وهناك بعض ضعاف الإيمان يقولون: لو أن الحق مع المسلمين فلماذا لا ينصرهم الله؟ وهذا بلاء، وتمحيص، واختبار، ولكن ليعلم الجميع أن العاقبة للتقوى؛ لأن الله قال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، فالنصر للرسل وللمؤمنين الذين هم أتباع الرسل ولا شك، ولكن ما معنى النصر؟ قد يكون النصر بالقتل، فإن الغلام الذي جاء في قصة أصحاب الأخدود قتل وانتصرت دعوته، فيوم أن كان الغلام يتردد على الساحر والراهب -كما في صحيح مسلم - وسمع من الراهب ما سمع، وآمن بما يقول الراهب، وفي نهاية الحديث أنه قال للملك الظالم: إنك لن تقتلني إلا إذا فعلت ما أمليه عليك، فقال الملك: ماذا تريد؟ فقال الغلام: اجمع الناس في صعيد واحد، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم قل: باسم الله رب الغلام، فإن فعلت ذلك فإنك قاتلي.
هنا -أيها الإخوة الكرام- فعل الملك ما أملاه عليه الغلام، أمسك بالسهم وقال: باسم الله رب الغلام، وأطلق السهم فوقع في صدغ الغلام فوضع يده على صدغه فمات، فإذا بالحضور يقولون: آمنا بالله رب الغلام، فالغلام مات وانتصرت دعوته، فالنصر قد يأتي بعد الموت، وهذا مفهوم من مفاهيم النصر.
وهذا زكريا عليه السلام نبي قتله اليهود، ويحيى عليه السلام كذلك قتله اليهود، والله يقول: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر:51]، إذاً: إذا كان القتل لا يعني نصراً فقتل زكريا ويحيى يعني هزيمة، والله يقول: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
والله عز وجل إذا أراد أمراً يسر له أسبابه، والعبد لا يعلم، ففرعون لما أخبر أنه سيولد في بني إسرائيل غلام سيكون على يده نهاية ملكه ماذا صنع؟ أصدر قانوناً بأن تتابع كل امرأة في بني إسرائيل، وهذا سلاح التحريات، فإذا وضعت ذكراً قتل، وإذا وضعت أنثى تركت، يقول ربنا في ذلك: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49]، وفي هذه الظروف وفي هذه الشدة، وفي وسط هذا القتل ولد موسى عليه السلام، يا فرعون! إن كنت رباً كما تقول فامنع ميلاد موسى، وليس ذلك فحسب وإنما سيربى موسى في بيتك وتحت يدك ويستمد قوته منك، أي: أنه سيكون صاحب حسب وقوة في مصر؛ لأنه تربى في بيت فرعون.
يقول الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].
ولد موسى وامتثلت أمه لأمر الله فألقته في التابوت، فسار التابوت في البحر بأمر الله عز وجل حتى وصل إلى الشاطئ، والتقطه آل فرعون، فتح الصندوق فإذا فيه غلام، فاصدر فرعون أمراً بقتله، قالت امرأة فرعون: لا تقتلوه.
-والفراعنة كثيراً ما يمتثلون لأمر نسائهم، فنشأ موسى في هذه الظروف وتربى، وكان على يده نهاية فرعون، من الذي رباه؟ فرعون، نشأ تحت عين من؟ فرعون، إن الله عز وجل إذا أراد شيئاً يسر له أسبابه.