كان يستمع لرسول الله مائة وأربعة وعشرون ألفاً، وعمدتنا حديث جابر الذي انفرد به مسلم في وصف حجة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يقول جابر: وقف عن يمينه وعن يساره ومن أمامه ومن خلفه بشر لا تصل العين إلى مداهم، فبعد جهد في الدعوة إلى الله، وبعد أن كان بمفرده مع نفر قليل قبل عشرين سنة بقليل، هذا الحشد الذي جاء يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم هو نتيجة جهد في الدعوة إلى الله، والإخلاص في الدعوة إلى الله، أراد الله عز وجل أن يرى الحبيب صلى الله عليه وسلم ثمرة ذلك الجهد قبل موته، فقام يقول للناس: (إن دماءكم)، فذكر أولاً: حرمة دم المسلم، كما قال في الحديث الآخر: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه).
ومقاصد الشريعة الإسلامية خمسة: حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ العرض، وقد أحاط الإسلام هذه المقاصد بسياج، فكانت الحدود لحفظ النفس، كما قال عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، فمن قتل يقتل، وكان ابن عباس يقول وينفرد برأيه عن جمهور الصحابة: ليس لقاتل المسلم عمداً توبة، وطبعاً رأيه يخالف رأي جمهور الصحابة، ولكن قال ذلك لشدة الوعيد، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، ولا تجد في القرآن وعيداً أشد من هذا الوعيد، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، فهذا غضب ولعن في آية واحدة، ووعيد بالعذاب العظيم، فـ ابن عباس نظر إلى الآية وقال: ليس له توبة، لكن جمهور العلماء على أن له توبة، وابن عباس حاجه الصحابة بقول الله في سورة الفرقان: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70].
فأحاط الإسلام هذه المقاصد بالحدود، فكان لحفظ النفس القصاص، وكان لحفظ الدين حد الردة، قال صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، والمرتد يستتاب ثلاث مرات وإلا قتل ردة، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولحفظ العقل كان حد شرب الخمر أربعين جلدة، وعمر جعلها ثمانين: أربعين حداً وأربعين تعزيراً، ولحفظ المال كان حد السرقة، ولحفظ العرض كان حد الزنى وحد القذف، فجاءت الحدود لتحفظ مقاصد الشريعة، ولذلك يوم أن أهدرت الحدود عمت الفوضى، وساد البلاء، فلو أن حدود الله تطبق في مجتمعاتنا لتردد السارق ألف مرة قبل أن تمتد يده، ولوقف الزاني مع نفسه؛ لأنه يعلم أنه سيقف في ميدان عام ويجمع الناس لينظروا إليه وهو يجلد أو يرجم.
لذلك يقولون: الحدود زواجر وجوابر، والمقصود بكونها زواجر: أنها تزجر العاصي فيرتدع عن المعصية، والمقصود بكونها جوابر: أنها تطهره من دنس معصيته قبل لقاء الله عز وجل، فأين الحدود في مجتمع المسلمين؟ ومن الذي أهدرها؟ ولمصلحة من؟ ولحساب من؟ إنه لا يخشى من إقامة حد الزنى إلا الزاني، وأما إن كنت على الطريق المستقيم فلم تخشى من إقامة حدود الله في أرضه؟ فحدود الله في أرضه أمان وحفظ للمجتمعات، فلم تحرفون في دين الله؟ فالذي قال لكم: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72]، هو الذي قال لكم: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، أخبروني يا قوم! أليس هذا قرآناً؟! ثم بعد ذلك تجد من ينتسب إلى العلم زوراً وبهتاناً يحرف الكلم عن مواضعه، حتى يحافظ على مقعده وكرسيه.