وفي العام العاشر شعر النبي عليه الصلاة والسلام باقتراب أجله، فخرج عليه الصلاة والسلام لخمس ليال بقين من ذي القعدة -وهذا ما قرره صاحب الرحيق المختوم، ورجحه ابن حجر في فتح الباري- وأذن في الناس عليه الصلاة والسلام وأعلن أنه قاصد مكة لأداء الحج، فجاء الناس إليه من كل فج عميق، ليأتموا بسيد البشر صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة، إذ إن النبي عليه الصلاة والسلام قد شعر باقتراب أجله كما ذكرنا، والأدلة على ذلك كثيرة، ومنها: أنه قال للناس في خطبة جامعة هي أعظم خطبة في تاريخ البشرية المسماة بـ (خطبة الوداع): (اسمعوا عني فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، وكذلك أيضاً وهو يرمي الجمرات في أيام التشريق قال لهم: (خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).
وبعد أن أتم خطبة الوداع مباشرة على عرفة أنزل الله عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فبكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فتعجب الصحابة من بكائه، فقال: يا قوم! وهل بعد الكمال إلا النقصان، وكان النقصان الذي توقعه عمر هو موت الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي أيام التشريق أيضاً أنزل الله على نبيه عليه الصلاة والسلام: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، قال ابن عباس: أرى أن الله ينعى محمداً لأمته، كيف ذلك؟ قال: ألم تقرءوا قول الله: ((فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ))، والاستغفار دائماً يكون في ختام الشيء، فأرى أن هذه السورة هي ختام حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما أرسل عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن في العام العاشر من الهجرة قال له: (يا معاذ! لعلك لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك تمر بقبري، فبكى معاذ وقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله)، فكل هذه الأدلة تشير إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام قد استشعر اقتراب أجله.