ثم أمرهم الله بدخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم دخولها مع موسى، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا} [المائدة:24]، فيها قوم من العماليق جبّارين، {لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا} [المائدة:24]، فوعظهم فإذا بهم يقولون: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، فكتب الله عليهم أن يتيهوا في الأرض أربعين سنة لا يعرفون مخرجاً، وتاهوا في التيه العظيم، ثم من الله عليهم بالمن والسلوى.
وبعد عبورهم إلى سيناء وعد الله موسى ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:142]، وفي سورة البقرة: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51].
فخرج موسى إلى جبل الطور بوعد من الله بعد صيام واعتكاف وطاعات وقرب، فقال الله له: تعال يا موسى مع قومك من بني إسرائيل، هم يقتربون من جبل الطور وأنت تصعد إلى أعلى الجبل، حتى يكلمك ربك ويوحي إليك بالتوراة التي فيها هدى ونور لإصلاح بني إسرائيل، {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف:145]، وكان موسى قد قال لقومه: سأذهب للقاء ربي ثلاثين يوماً -ولم يقل: أربعين؛ لأن الله زاده عشرة بعد أن ضرب له ثلاثين- ثم أنتم تأتون في أثري مع أخي هارون، فقال الله له: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه:83]، أي: لماذا تركت وتعجلت قبل بني إسرائيل؟ فهم إذا غبت عنهم ينحرفون عن الطريق السوي، فقال: {هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه:84]، أي: هم سيقدمون خلفي مع أخي هارون، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]، إنه تعجيل بالطاعة، لكن حال بعض الناس أنه يسوف، فإذا قلت له: صل، رد عليك: بعد أن أنتهي من التعليم، وإن قلت لامرأة كاشفة: تحجبي، ترد عليك: بعد أن أُخطب أو بعد الزواج أو بعد الإنجاب! تسويف، فالشيطان يسوّف للإنسان ويمهله، ولا يدري متى سيموت؟ فعجّل بالطاعة على التو، ولا تسوف أبداً.
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر بأصحابه يوماً، فسلّم ثم تخطى الرقاب مسرعاً، وكان عادته أن يجلس بعد الصلاة قليلاً ليقول أوراد ما بعد الصلاة، وفي هذه المرة لم يجلس وإنما قام مسرعاً وتخطى الرقاب ودخل إلى حجرته، ثم أتى بعد قليل والقوم يتعجبون فقال: (لعلكم تتساءلون ما الذي صنعت؟ إني وأنا أصلي تذكرت تبراً -يعني: ذهباً- من مال الصدقة فخشيت أن أُقبض فيسألني ربي عنه).
فتأمل إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم، إذ إنه لم يؤجل حتى يأتي بأوراد الصلاة التي تأخذ وقتاً قليلاً جداً، {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78] فالنبي خرج مسرعاً ليأتي بالذهب الذي جمعه من مال الصدقة لينفقه على الفقراء، وحالنا اليوم مجرد شعارات.
وجاء في الحديث الصحيح أنه (كان يمر على النبي صلى الله عليه وسلم الهلال والهلالان -يعني: الشهر والشهران- ولا يوقد في بيته نار)، أي: أن طعامه التمر والماء، ونحن اليوم نتحدث عن الزهد وبيوتنا ملأى بالطعام، وليس معنى ذلك عدم الجواز، ولكن انظر: فقد دخل عليه عمر وهو ينام على الأرض عليه الصلاة والسلام، فرأى الحصير قد أثر في جنبه، فقال: (يا رسول الله! ملوك الفرس والروم ينامون في بروج مشيدة وأنت تلتحف الأرض يا حبيب الله، فقال: يا عمر! هؤلاء قوم عُجّلت لهم طيباتهم في الدنيا، ونحن أُجّلت لنا طيباتنا إلى يوم القيامة)، إنه التقلل من متاع الدنيا الزائل، والتقلل من زخرفها، وهذا هو صنيعة الأتقياء، وهذا هو طريق الزهاد الأوائل.
يا عبد الله! حينما نقول هذا قد يغضب البعض، لكن ليغضب من يغضب، فهذا هو الدين، وهذا هو الإسلام، وهذه هي النصوص الصحيحة التي ترسم لنا حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.