إن أول ملامح النصر للأمة: أن يبعث الله لها قائداً مسلماً، وهذا الذي كان في قصة طالوت وجالوت التي سنذكرها فيما بعد، وسنبين كيف أن الله سلط على بني إسرائيل العماليق فأذاقوهم سوء العذاب: فأخذوا منهم التابوت، وأسروا النساء والأبناء، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا هو واقع أمة محمد صلى الله عليه وسلم اليوم، لكن عندما ننظر إلى جماعة الأشراف من بني إسرائيل الذين دب فيهم روح القتال، واجتمعوا إلى نبي لهم فقالوا: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ} [البقرة:246].
فقال لهم نبيهم: عهدي بكم أنكم لا عهد لكم ولا ميثاق، {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246]، فأنت ترى الذل والهوان الذي نحن فيه، لكن هذه الروح الحماسية وروح المظاهرات والشعارات لا ينبغي للحاكم المسلم أن ينخدع بها، بل لابد من الاختبار، وهذه الروح الحماسية روح عاطفية مؤقتة، قال لهم نبيهم: أخشى إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، أي: أخشى أن يكتب عليكم القتال فلا تقاتلوا، ثم قال لهم: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247]، فهم يريدون قائداً، وهذا هو أول أسباب النصر في الغزوات، القائد المؤمن الذي يقود الرعية لتحرير المقدسات، فـ طالوت هو الذي يقودهم إلى هذا، لكن: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247]، لا هو من العائلة المالكة، ولا هو من الأغنياء، وشروط الملوك عندنا: أن يكون من العائلة المالكة، وأن يكون من الأغنياء، {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247]، زاده بسطة في العلم، لذا لا مخرج للأمة إلا بالعلم، وعليه فلا تسمعوا لأصحاب المظاهرات الذين يقولون: إن أهل السنة يعلمون الناس العلم ولا شأن لهم بجهاد، لا، فطريق الجهاد هو العلم، وهؤلاء يقولون كلاماً غير واقعهم، وانتبهوا يا قوم! فالقائد المسلم هو الذي يختبر الرعية في حماسها.
فماذا صنع طالوت؟ جاء دور التصفية للتضخم الكمي الذي لا عبرة له، فقال لهم: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249]، استثناء: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا} [البقرة:249]، قال البراء بن عازب كما عند البخاري: كنا نعد أصحاب طالوت كأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر.
ثلاثمائة وثلاثة عشر من مائة ألف، يعني: مائة ألف يرفعون الأعلام: بالروح بالدم نفديك يا أقصى، وأول اختبار ستجد أن 90% من هذا العدد ولى مدبراً ولم يعقب، فيا قوم روح الحماس لا تصنع أمة، وهذا هو شعار القائد المسلم، وتأمل لو أن هناك محاضرة بعد صلاة الفجر، فستجد أن المسجد فارغ من الناس، لأن الناس نائمون، فهؤلاء القوم سقطوا في الاختبار والابتلاء، ولذلك الحاكم المسلم هو الذي يختبر الرعية، فيقيس درجة الإيمان عندهم: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:249]، قيل للشافعي: أيهما أولى للمؤمن أن يمكن أو يبتلى؟ فأجاب رحمه الله: لا يمكن حتى يبتلى، إذاً: لا تمكين في الأرض إلا بعد ابتلاء، فيا ليتنا نفهم المراد من الله عز وجل.