تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره)

فإننا استمعنا إلى قراءة إمامنا في هذه الليلة في صلاة المغرب من المسجد النبوي حيث قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] (ما قدروا) الفاعل يعود على المشركين، ودليل ذلك قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] يعني: أن هؤلاء المشركين لم يعظموا الله تعالى حق تعظيمه، مع أنه جل وعلا أعظم من كل شيء، (الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) جميعاً بما فيها من الأشجار والبحار والجبال والأنهار وغير ذلك كلها قبضته يوم القيامة.

(والسماوات مطويات بيمينه) السماوات السبع على عظمها واتساعها (مطويات بيمينه) ومن الذي طواها؟ الله، كما قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] هذا الذي هذه عظمته كيف يشرك به مخلوقٌ حقير، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا غياً ولا رشداً؟! إن من أشرك بهذا الرب العظيم معه غيره لهو أسفه الناس بل هو أسفل الناس، لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130] وملة إبراهيم هي ما ذكره الله في قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] .

ولهذا قال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] (سبحان) منصوبة لأنها مفعول مطلق عاملها يسبح فهي مفعول مطلق؛ لأنه وافق المصدر في المعنى وخالفه في اللفظ، حيث مصدر يسبح تسبيحة، هذه الكلمة (سبحان) لا يمكن أن يدخل معها عامل، كلما جاءت في القرآن أو السنة فهي منصوبة دائماً على المفعولية المطلقة ولا يذكر معها عامل.

انظروا في السنة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، كلما ذكرت لا يذكر معها العامل وتذكر بهذا اللفظ على أنها مفعول مثل: سبحانه، أي: تنزيهاً له، والذي ينزه الله عنه ثلاثة أشياء: أولاً: كل صفة نقص فالله منزه عنها.

ثانياً: كل نقصٍ في كماله فالله منزه عنه، فكمال الله عز وجل ليس فيه نقص، فلا نقص في علمه ولا في قدرته ولا في قوته ولا غير ذلك.

ثالثاً: مماثلة المخلوقين، فالله منزه عنها.

ما هو الدليل على ذلك؟ الدليل على الأول: أنه منزه عن كل نقص فليس موصوفاً بالعمى عز وجل، ولا بالصمم ولا بالخرس؛ لأن إبراهيم أقام الدليل العقلي على أبيه في قوله: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] فدل ذلك على أن الرب يجب أن يكون سميعاً بصيراً يغني عن عابده شيئاً، إذاً: الله تعالى منزه عن كل نقص.

ثانياً: منزه عن كل نقصٍ في كماله، مثلاً: القوة من الكمال أليس كذلك؟ فالله منزه عن نقص هذه القوة، مهما عظم الفعل فإنه منزه عن نقص هذه القوة، ودليل ذلك: قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] أي: من تعبٍ وإعياء، وهذا نفي لنقص كماله جل وعلا.

الثالث: منزه عن مماثلة المخلوقين والدليل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وهذا خبر، وقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74] فنفى المثل أولاً، ثم نهى أن نضرب الأمثال له ثانياً.

إذاً: كلما تلوت: (سبحان الله) فاستحضر هذا المعنى: أنه منزه عن كل نقص، ومنزه عن النقص بكماله، ومنزه عن مماثلة المخلوقين.

(تعالى) يعني: ترفع وتعاظم عن هذه الأصناف؛ لأن هذه الأصناف لا تغني من الحق شيئاً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015